تعتبر منظمات حقوق الإنسان ظاهرة جديدة في العالم العربي. وعلى رغم أن أول جمعية مستقلة تولت الدفاع عن حقوق مواطنيها ولدت في السبعينات، فإن الحركة الحقوقية العربية لاتزال تحاول أن تفتك موقع قدم لها داخل هذا البلد أو ذاك، ولم تتجاوز بعد مرحلة إثبات شرعية وجودها داخل النسيج الجمعوي الذي يتشكل من أكثر من خمسين ألف جمعية ومنظمة، ولم تخرج بعد من دائرة الدفاع عن شرعية انتمائها إلى مكونات الواقع الثقافي العربي المعاصر. فنشطاء حقوق الإنسان في الساحات العربية يخوضون منذ حوالي ثلاثين عاما معارك متتالية على أكثر من جبهة من أجل الحفاظ على البقاء، وإقناع حكومات دولهم بأن حماية حقوق المواطنين شرط أساسي من شروط الحداثة والتنمية والاستقرار الحقيقي.
وعلى رغم إنجاز بعض النتائج الإيجابية، فأن المحصلة النهائية لاتزال ضعيفة مقارنة بدوائر جغرافية وسياسية أخرى، كما أن الحركة الحقوقية العربية تعاني من تراجع ملحوظ في مستوى الأداء والتنظيم والصدقية. فهل تعود الأسباب إلى سوء المناخ السياسي السائد في كل الدول العربية تقريبا أم أن للأزمة عوامل أخرى إضافية؟.
تعتبر الرابطة التونسية والجمعية المغربية لحقوق الانسان من التنظيمات الأولية المختصة في الدفاع عن الحقوق الأساسية للمواطن في العالم العربي. فولادتهما تمت خلال النصف الثاني من السبعينات، وإن تميزت الأولى بالتنوع السياسي والفكري لمؤسسيها في حين كان يقف وراء الثانية حزب معارض قريب من اليسار الراديكالي. ولم تمض سوى سنوات قليلة حتى أنبتت الأرض العربية جمعيات مماثلة في الكثير من الأقطار مثل الجزائر وموريتانيا واليمن ومصر وفلسطين ولبنان والكويت والبحرين والأردن. أما بالنسبة إلى الدول التي رفضت حكوماتها السماح لجمعيات شبيهة بالنشاط القانوني داخل بلادها مثل ليبيا والعراق وسورية فقد تشكلت لجان في المهجر (معظمها في أوروبا) للدفاع عن مواطني هذه الدول، وهي لجان بادر بتأسيس معظمها مثقفون أو معارضون هجروا أوطانهم اختيارا أو اضطرارا لأسباب سياسية. وقد أشرت هذه الولادات المتتالية على دلالات مهمة فكرية وسياسية.
عودة الوعي بأهمية الفرد
عكست الحركة السابقة بداية الوعي بأهمية الانسان باعتباره فردا لدى النخب العربية. هذه النخب التي قضت سنوات طويلة تلهث وراء الاعتقاد بأن بناء دولة قوية هو المدخل الطبيعي والوحيد لتحقيق التنمية والتقدم والحداثة والوحدة والاشتراكية والتحرر الوطني. وعلى رغم أن طلائع النضال السياسي والاجتماعي والثقافي من شيوعيين وقوميين واسلاميين تعرضوا لقمع الأنظمة العربية الثورية التي اكتسبت قوتها بفضل وقوف هذه التيارات إلى جانبها بعد تسلمها للسلطة بشكل غير ديمقراطي في الغالب، فإن الفكر الذي بقي يقعد الرؤى السياسية عند هذه الأطراف استمر لفترات طويلة لا يعطي للحرية والحقوق الأساسية للفرد القيمة المركزية. بل ان هذه الأطراف كانت في مراحل سابقة تشعر بالارتياح عندما يتعرض خصمها للقمع ظنا منها بأن ذلك سيكون في صالحها. بل ان جميع هذه التنظيمات أبدت استعدادها في أكثر من مناسبة للتضحية بالحريات والتعددية توهما منها بأن المعركة ضد الإقطاع والرجعية والصهيونية والامبريالية أو ما كان يسمى بـ «الخطر الأحمر» تتطلب وحدانية القيادة والتنظيم والتوجه لتعبئة الشعوب ضد أعدائها المكشوفين أو المفترضين.
عندما حلت هزيمة 67 وانكشف الغطاء عن انهيار أسطورة «الدولة الحامية» أدرك المثقفون ان سكوتهم السابق عن مسألة الحريات وحقوق المواطنين، ومشاركتهم المباشرة والنشيطة في وضع أولويات مغلوطة، أدى الى نتائج كارثية، إضافة إلى تعرضهم للاضطهاد إذ أصبحوا من أبرز ضحايا تلك المرحلة الصعبة. لهذا مالت غالبيتهم نحو الاعتقاد بأن تحويل الفرد الى قيمة عليا وتمتعه بحقوقه وصيانة كرامته شرط لا تنازل عنه مهما كانت نوعية الضحايا، وفي كل الظروف: الحرب والسلم، الوحدة والتجزئة، الثراء والفقر، الجمهورية والملكية.
ارتبطت نشأة جمعيات حقوق الإنسان بتحولات دولية وأزمات محلية واقليمية دفعت الأنظمة نحو تخفيف قبضتها عن المجتمعات والنخب، إذ شهدت السبعينات نزوعا حذرا وترددا نحو اطلاق بعض الحريات. وكان من ثمرات ذلك الهامش المحدود هذه الشبكة من المنظمات العربية تتسع يوما بعد يوم. وقد ظن المراقبون في البداية ان الحكومات التي اعترفت بهذه الجمعيات هيأت نفسها سياسيا واداريا وسيكلوجيا وايدولوجيا للتعايش مع كل ما تمثله هذه المنظمات من خصوصيات نضالية وثقافية وسلوكية. فدور هذه الجمعيات هو نشر وعي جديد بمسألة حقوق الانسان، ورصد كل التجاوزات التي ترتكبها الادارة أو أجهزة الأمن في حق المواطنين، ومحاولة معالجتها في مرحلة عن طريق الحوار والمراسلة والتحسيس والضغط، فإذا استمرت الانتهاكات تم إصدار البيانات وتنظيم الحملات المحلية والدولية، واستنفاد كل الوسائل المشروعة والقانونية من أجل مناهضة التعذيب، أو إنقاذ بريء مهدد بالخطر، أو اطلاق سجين رأي حوكم بسبب أفكاره وممارسته حق من حقوقه الأساسية.
اختلاف على وظيفة الأجهزة الأمنية وحدود صلاحياتها
كشفت تجارب السنوات القليلة الماضية عن وجود خلافات أساسية بين الحكومات العربية ومعظم هذه الجمعيات. فعلى إثر اجتماع لوزراء الداخلية العرب انعقد بتونس خلال سنة 1997 ذكر وزير الدخلية اللبناني السابق «ميشال المر» لبعض الصحافيين لاحظنا أن جميع الحاضرين في الاجتماع يشكون من جمعيات حقوق الانسان التي لديهم.
وقالوا ان عملها وتحركها لا يهدفان إلى حماية حقوق الانسان، بل الى شل عمل الأجهزة الأمنية وسياسة الدول الأمنية. هذه المعاينة التي قام بها وزراء الداخلية العرب لجمعيات حقوق الانسان العربية لم تزدها السنوات التي تلت اجتماعهم ذاك الا رسوخا، وخصوصا بعد المنعرج الخطير الذي ترتب على حوادث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول. إذ من بين العوامل الأساسية التي تتسبب باستمرار في تأزيم العلاقة بين الطرفين هو اختلافهما على مفهوم السياسة الأمنية ووسائلها وأغراضها وحدودها. فعلى سبيل المثال ترى اجهزة الأمن العربية أن التعذيب وسيلة ناجعة للحصول على المعلومات التي يخفيها المشتبه فيه، في حين يعتبره المدافعون عن حقوق الانسان مسا من الحرمة الجسدية للبشر تجرمه المواثيق الدولية. كما تسمح الأجهزة لنفسها بإيقاف مواطن لمجرد الشبهة ، ومحاكمة شخص يحمل منشورا أو مقالا أو كتابا يتضمن نقدا للنظام القائم، في حين يؤمن النشطاء بأن حرية التعبير والتفكير والمعتقد حقوق أساسية لكل البشر. وتعتقد الأجهزة أن ضبط الشارع، ومنع الحريات، والتدخل في الحياة الخاصة للمواطنين مثل التنصت على هواتفهم أو الاطلاع على رسائلهم أو وضعهم تحت المراقبة اللصيقة أو الخفية أو ابتزاز المعارضين عن طريق الوسائل غير الأخلاقية أو تجويعهم بطردهم من وظائفهم أو حرمانهم من الدراسة والسفر، كلها أدوات مشروعة لحماية الأمن العام وتحقيق الاستقرار وحماية مصالح الدولة والمجتمع. أما جمعيات حقوق الانسان فتعتقد من جهتها أن الاستقرار الحقيقي والدائم يتأتى من احترام السلطة إرادة الشعب، وتفريق السلطات، والتقيد بالقانون، والتمسك بالشرعية وعدم معالجة الخلافات السياسية عن طريق اللجوء إلى القوة، وعدم إقحام مؤسستي الجيش والأمن في الصراع السياسي.
الحكومات تتهم والجمعيات ترد
إلى جانب الخلاف الجوهري على مفهوم السياسة الأمنية وعلاقة الشرطة بالمواطنين، هناك مسائل اخرى تسوقها الحكومات غالبا في قالب اتهامات من بينها:
1- تتهم الحكومات جمعيات حقوق الانسان العربية بالتسييس، وتعتبرها تنظيمات معارضة تتستر برسالة انسانية نبيلة ويستند هذا الاتهام على وجود اشكاليتين متداخلتين، تخص الأولى طبيعة العلاقة القائمة بين السياسة وحقوق الانسان، وتتعلق الثانية بالتداخل الذي يمكن أن يحصل بين دائرتي النضال الانساني والنشاط الحزبي. وهما اشكاليتان لا تشغلان فقط الحكومات وانما تثيران جدلا واسعا حتى في أوساط نشطاء حقوق الانسان.
فعلى صعيد الاشكالية الأولى تعتقد منظمات حقوق الانسان ومن بينها الرابطة التونسية أنه نظريا «يصعب الفصل كليا بين فلسفة حقوق الانسان ومجالاتها وبين السياسة باعتبار اطارا لتنظيم شئون العلاقة بين الدولة والمجتمع. فالنصوص المرجعية لحركة حقوق الانسان جاءت لتحمي الفرد والمجموعة من هيمنة الدولة وتجاوزاتها» . وتتساءل هذه الجمعية الحقوقية في إحدى نصوصها: «هل ان الدفاع عن حقوق الافراد في التنظيم والحرية والاعلام والانتخاب يعتبر سياسة؟ وهل ان التنديد بالتعذيب يعتبر ايضا سياسة؟
لكن هذا التداخل الحاصل بين السياسة في مفهومها الواسع ومنظمة حقوق الانسان، يجب ألا يبرر من وجهة نظر هؤلاء النشطاء سيطرة أي حزب من الأحزاب على جمعيات حقوق الانسان بغرض توظيفها في الصراع الحزبي بين مختلف الفرقاء المتنافسين على السلطة. لانه عندما يحصل ذلك ينتج بالضرورة انحراف عن أهداف تلك الجمعيات وخطابها ووسائل عملها.
2- تعتقد الحكومات أن اعتراض جمعيات حقوق الانسان على سياساتها الأمنية من شأنه أن يخدم الارهاب ويقوي شوكة المتطرفين والارهابيين، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى اضعاف الدولة وارباكها. ويرد النشطاء على هذا الاتهام بتأكيد عدم اختلافهم مع الحكومات في مبدأ تطبيق القانون ومحاربة الجريمة، لكنهم يطالبون في المقابل بالغاء التشريعات الماسة أو المحددة للحريات الاساسية وحقوق الافراد والجماعات. كما يعترضون على جميع الاساليب التي قد تعتمد اثناء الاعتقال والتحقيق أو السجن، وتكون مهينة للكرامة البشرية وتهدف إلى الاقصاء أو التمييز.
3- تنظر الحكومات بكثير من الريبة والامتعاض للعلاقات التي تنسجها الجمعيات المحلية مع الشبكة الدولية لحقوق الانسان، وغالبا ما تتسبب تلك العلاقات والتحالفات في خلق أزمات بين الطرفين. لأن الأنظمة العربية لاتزال ترى في تقارير المنظمات العالمية «تدخلا في شئونها الداخلية ومسا من السيادة الوطنية للدول». وهنا ايضا ينشأ خلاف على مفهومي السيادة والوطنية. فالنشطاء يعتبرون أن التنديد بالانتهاكات في مجال حقوق الانسان لا علاقة لها بالحدود الجغرافية ولا تتعارض مع مبدأ السيادة، كما ان التنسيق مع مختلف المنظمات العربية والدولية من اجل ممارسة الضغط على الحكومات المحلية عمل لا يتعارض مع الوطنية ولا يمكن ادراجه ضمن خانة العمالة للاجنبي وخيانة الوطن.
هذه العلاقة المتوترة في الغالب بين جمعيات حقوق الانسان والحكومات العربية أسهمت بشكل ملحوظ في الحد من فعالية حركة حقوق الانسان وعرقلة نموها وتوسيع دائرة إشعاعها. لكن ذلك ليس العامل الوحيد الذي يفسر الوضع الراهن لهذه الحركة، إذ هناك عوامل أخرى ذاتية زادت من اضعافها وانحسارها في بعض الاقطار. فالخلافات القائمة بين النشطاء، والنزعة الاحتكارية وغير الديمقراطية لبعضهم، إضافة إلى افتقار عدد منهم إلى المهنية والعمق الثقافي والاستعداد للتضحية، واحيانا طغيان الحسابات الشخصية أو الحزبية والايديولوجية، هي عوامل اضافة أثرت سلبا على بعض الجمعيات التي شكلت في مرحلة سابقة عنصر قوة في الحركة الحقوقية العربية. مع ذلك فإن هذه الجمعيات الحالية تقوم بدور مهم في مجال التثقيف والتصدي للانتهاكات، وستدفعها التطورات القادمة التي سيشهدها الكثير من البلدان العربية إلى مراجعة اساليب عملها وفتح ابوابها لجيل جديد من المؤمنين بقيم حقوق الانسان بعيدا عن أي اعتبارات ضيقة
العدد 115 - الأحد 29 ديسمبر 2002م الموافق 24 شوال 1423هـ