«الإنسان ذو البعد الواحد» هو عنوان كتاب ألفه الفيلسوف الاميركي (الالماني الاصل) هربرت ماركوزة في نهاية الستينات. آنذاك كانت اوروبا تشهد حركة طلابية كبرى بدأت في فرنسا وانتشرت عالميا. افكار الحركة الطلابية كانت مثالية إلى حد السذاجة إلا انها طرحت مجموعة آراء جريئة هزت اركان السلطات الفرنسية التقليدية وانتهت بإسقاط الجنرال شارل ديغول.
اختلطت افكار قيادات الحركة الطلابية بمجموعة مدارس فلسفية ولم تنجح في صوغ وجهة نظر مشتركة. فالطلبة في النهاية هم مجموعة تكتلات لا تجمعها مصالح مشتركة بل توحدها رؤية مؤقتة تنتهي مع نهاية سنوات التخرج وبعدها يعود كل طالب إلى المكان الذي جاء منه... لتبدأ رحلة العودة ومحاولة الصعود مجددا في سلم التقدم الاجتماعي.
وللسبب المذكور تشتت الحركة الطلابية وتوزعت على مجموعة اجتهادات فلسفية منها اليميني ومنها اليساري ومنها الفوضوي. وبعض التيارات تحول إلى جزء من السلطة آخذا برفد الدولة بالافكار الجديدة التي تعكس نبض الشارع والتحولات الجارية في الحياة الاجتماعية.
إلا ان اهم ما اثمرته تلك الحركة الطلابية فلسفيا هو تأثيرها المباشر على الاحزاب والهيئات السياسية الموجودة التي حاولت تفهم آراء تلك الحركة وافكارها وانتهى الامر إلى تشتت بعض التنظيمات وخروج قادة على انماط معينة من التفكير. ابرز هؤلاء كان روجيه غارودي في فرنسا الذي طرح فكرة «الكتلة التاريخية» بديلا عن نظرية «الطبقة الاجتماعية» الماركسية. وهربرت ماركوزة في الولايات المتحدة الذي دمج بين مجموعة مناهج فلسفية معاصرة والماركسية وأنتج منهجية جديدة لا تتفق كثيرا مع آليات المنهج الماركسي. وانتهى امر غارودي بطرده من الحزب بتهمة «التحريض» بينما اسس ماركوزة مدرسة مستقلة عرفت حتى فترة وجيزة بـ «اليسار» الجديد.
«اليسار الجديد» هو الطبعة الاميركية لليسار الاوروبي الذي خلط مجموعة نطريات من مدارس مختلفة لكسر الحلقة المفرغة التي دخل فيها وعجز عن تجاوز السقف السياسي المسموح به في دول اوروبا الغربية. فأوروبا الرأسمالية آنذاك كانت تعيش هواجس الخوف و«التخويف» من الخطر السوفياتي القابع في اوروبا الشرقية. كانت ابرز شعارات اليسار الطلابي الجديد فكرة ساذجة الا انها ألهمت الكثير من فلاسفة اوروبا آنذاك وعلى رأسهم جان بول سارتر. الفكرة تقول: «السلطة كل السلطة للخيال» وذلك ردا على الشعار الماركسي التقليدي «السلطة كل السلطة للطبقة العاملة». طرح الطلبة آنذاك سلسلة اهداف غير واضحة المعالم تشبه إلى حد كبير تركيبة الطلاب الاجتماعية وتشتت اجتماعهم واجتماع مصادرهم على انتماءات متناقضة. فالمخيلة كانت هي الجامع الوحيد الذي ربط اهواء الطلبة وتعدد امزجتهم. وبدلا من تحديد الاهداف لجأ الطلبة إلى اطلاق الغايات وفتحها إلى حدها الاقصى: المخيلة...
مخيلة الانسان هي في جزء منها ارهاصات رؤية، وفي جزء منها هي العجز عن التكيف مع واقع صعب وشديد التعقيد، وفي جزء منها هي التعبير عن حلم بواقع مغاير مرتب من مجموعة مفككة، وهي... وهي...
انتهت الحركة الطلابية التي اندلعت في مايو/ ايار 1968 في اقل من سنتين وتخرج قادتها الكبار وتحول بعضهم إلى اسوأ المفكرين فدخلوا مؤسسات الدولة واصبحوا من كبار المنظرين لحركة اليمين الاوروبي الجديد.
انتهت الحركة الطلابية إلا ان تداعياتها الفكرية لم تتوقف عن انتاج تأثيراتها الفلسفية والسياسية على كبار رجال السن في تلك الفترة من امثال سارتر وغارودي، وماركوزة. هؤلاء نظروا إلى الحركة بهدوء ووجدوا فيها عناصر حيوية لم يدركها الطلبة آنذاك فأخذوا في قراءة المسألة وتنظير جوانبها تاريخيا وفلسفيا وصدرت كتابات فكرية تجاوزت اللحظة الزمنية وشاهدت المستقبل برؤية زمنية.
أبرز الكتب حمل عنوان «الانسان ذو البعد الواحد». للفيلسوف الكهل ماركوزة. ماركوزة الالماني الذي هرب من النازية وافكارها الكلية والشمولية إلى الولايات المتحدة وجد نفسه هناك يعيش في ظل نظام آخر فيه عناصر قوية من الشمولية والكلية الا انها تنتج باساليب مختلفة وادوات مغايرة... ولكنها في النهاية تلتقي على الهدف نفسه وهو الغاء البعد الآخر عند الانسان... فتصبح خياراته محددة بوسائل معينة تدفعه دفعا إلى نهاية مبرمجة لا يستطيع الخروج عليها.
البعد الواحد يعني في نهاية المطاف إلغاء البعد الآخر سواء بأساليب القهر المباشر أو عن طريق المؤسسات المسيطرة في الظل.
والسيطرة على انواعها تعني قتل المخيلة عند الانسان. ماركوزة الاوروبي - الاميركي لم يكن يتحدث آنذاك عن اوروبا في ماضيها بل عن اميركا في مستقبلها
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 115 - الأحد 29 ديسمبر 2002م الموافق 24 شوال 1423هـ
