حتى الآن لا تعرف الأسباب الحقيقية التي دفعت نظام كوريا الشمالية الى الاعلان عن رفعه اجهزة المراقبة الدولية عن مؤسساته التي يقال انها تنتج طاقة نووية يمكن استخدامها في التصنيع الحربي. حتى الآن الأسباب غير دقيقة الا أنه في الاطار العام يمكن وضع اجوبة افتراضية ترجح أحد العوامل أو أن هناك عناصر خفية لا بد أنها ستظهر الى سطح السياسة الدولية بعد حين.
الفرضية الأولى: ان كوريا الشمالية وجدت في تركيز واشنطن انتباهها على منطقة «الشرق الأوسط» وتحديدا العراق، فرصة لها للتملص من اتفاقاتها مع الادارة الأميركية التي صاغتها في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون.
الفرضية الثانية: ان كوريا الشمالية توقعت من الولايات المتحدة وأوروبا الكثير من المساعدات الاقتصادية والدعم المالي مقابل تجميد مشروع انتاج الطاقة النووية والموافقة على فرض رقابة دولية دائمة على مصانعها ومؤسساتها فجاءت النتائج أقل من التوقعات، فلجأت من جديد الى سياسة التوتير المحدود لتحسين شروط التعاقد واجبار الدول الكبرى على تنفيذ تعهداتها السابقة مع تعديلات تتناسب مع ظروف المحيط الاقليمي في أقصى شرق آسيا.
الفرضية الثالثة: ان كوريا الشمالية وافقت على مراقبة قطاعات محدودة من مؤسساتها فوجدت أن تلك الرقابة بدأت تتسع وتتحول الى نوع من الحصار الشامل لمختلف انشطتها الاقتصادية وحركة تبادلاتها التجارية الاقليمية والدولية، فاتجهت الى كسر الاتفاق المحدود والمحدد في أجزاء من صناعاتها حتى تعيد صوغ اتفاقات اكثر وضوحا تمنع الولايات المتحدة من المماطلة في تنفيذ تعهداتها وتضع حدا لتدخلات واشنطن في شئون تعتبر من الأمور الداخلية والسيادية.
هذا من الجانب الكوري الشمالي. أما من الجانب الأميركي فيمكن أيضا وضع ثلاثة احتمالات مضادة سترجح الأيام صحة أحدها.
الاحتمال الأول: ان الولايات المتحدة وجدت - في ظل هيمنة مثلث الشر (تشيني، رامسفيلد، رايس) على ادارة البيت الأبيض - ان الاتفاقات التي وقعتها الادارات السابقة ضعيفة (رخوة) فيها الكثير من الثغرات الأمنية وتعطي كوريا الشمالية أكثر مما تأخذ منها فلجأت الى تشديد الرقابة لتحسين شروط الاتفاقات وتحديدها بمجموعة شروط لا تقبل التأويل أو التغيير.
الاحتمال الثاني: ان مثلث الشر في البيت الأبيض وجد أن الوضع الدولي في حال استسلام وعنده الاستعداد للقبول بالسياسات العامة للولايات المتحدة في أي منطقة من العالم فرأى أن الوقت يناسب طموحاته فتحرك في أكثر من اتجاه في زمن واحد محاولا من خلال كوريا الشمالية اختبار استعداد الدول الكبرى (وتحديدا الصين) في مدى تجاوبها مع الاستراتيجية الأميركية الجديدة في منطقة شرق آسيا.
الاحتمال الثالث: ان مثلث الشر خاب أمله من توصل فرق التفتيش في العراق الى الامساك بطرف الخيط الذي يعطي ذريعة لواشنطن بشن حرب تدميرية تعزز استراتيجية الهجوم الوقائي، فأراد فتح ملف كوريا الشمالية لعله يجد فيه صلات واتصالات معينة مع بغداد تكون واسطة لإعادة البحث عن تلك الأسلحة في ضوء المعلومات التي يمكن تجميعها من الملف الكوري.
كل هذه الفرضيات والاحتمالات مجرد قراءة للخطوط العامة، بينما التفاصيل فهي تحتاج الى مزيد من الوقت لمعرفة حدود المشكلة وتداعياتها.
حتى الآن لا تعرف الأسباب الحقيقية التي دفعت نظام كوريا الشمالية الى تكرار التمرد على التوازنات الدولية في منطقة شرق آسيا. الظاهر من المسألة أن وريث نظام «كيم ايل سونغ» وصل الى منطقة خطرة في تنازلاته يمكن أن تؤدي خطواته المقبلة الى انهيار النظام وهيبته الداخلية في وقت يعاني اقتصاده من مشكلات بنيوية وتمر العلاقات الكورية الجنوبية مع الولايات المتحدة في «أزمة ثقة».
لا شك في أن هناك أزمة خفية لا تعرف تفاصيلها الدقيقة الا أن كوريا الشمالية تعاني من مشكلة مزمنة مع الولايات المتحدة في مختلف عهودها واداراتها.
فكوريا الشمالية هي من أوائل الدول التي فرض عليها الحصار وطوقت بالمقاطعة والمراقبة الدائمة منذ خمسينات القرن الماضي، تلتها كوبا التي فرض عليها النظام نفسه بعد أزمة الصواريخ السوفياتية في الستينات، وأخيرا كان دور العراق بعد أزمة الكويت في التسعينات. فالدول الثلاث (كوريا الشمالية، كوبا، والعراق) تعتبر من البلدان المارقة في نظر واشنطن وهي اضافة الى ايران تشكل في مجموعها ما يسميه «مثلث الشر» في البيت الأبيض بـ «محور الشر».
والسؤال هل أرادت واشنطن فتح ملف كوريا الشمالية لخوض معركة ثنائية ضدها وضد العراق في وقت واحد أم أن وريث «كيم ايل سونغ» اراد اختبار جدية البيت الأبيض في حربه السرية ضده؟ في الظاهر يعتبر نظام كوريا الشمالية هو المبادر إلى فتح الملف إلا أن حركته قد تكون ردة فعل على افعال استفزازية سرية قامت بها الولايات المتحدة. من يدري؟
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 113 - الجمعة 27 ديسمبر 2002م الموافق 22 شوال 1423هـ