يعتبر الفساد ظاهرة تاريخية لها اوجه سياسية واقتصادية وثقافية. واذا كان الفساد ظاهرة عامة تصيب كل المجتمعات فإن هذه الظاهرة محكومة بزمانها ومكانها وترتبط بما يدور في هذا البلد او ذاك وبالاوضاع السياسية والاقتصادية.
والفساد في المعنى الشامل، له اسبابه المتعددة والمتداخلة لكنه يرتبط من حيث وجوده او تفشيه أو عدم وجوده او حصره في نطاق ضيق على الاقل بوجود الديمقراطية او غيابها، اي وجود الاستبداد وغياب القوانين الدستورية الناظمة للعلاقة بين الحاكم والمحكوم والاجراءات المانعة لممارسات الفساد.
لذلك فليس غريبا ان يتفشى الفساد في المعنى الشمولي في معظم او كل دول العالم الثالث، وكذلك الدول التي كانت اشتراكية في يوم من الايام بسبب غياب الديمقراطية.
طبعا لا يعني ذلك ان الفساد لا يوجد في الانظمة الديمقراطية والرأسمالية، ابدا، فهو موجود لكنه لا يشكل ظاهرة، ويمكن كشفه او محاصرته بسبب سيادة القانون والمكاشفة وحرية وسائل الاعلام التي من شأنها ان تعري مختلف اشكال الفساد والمفسدين، وتقضي على محاولات الفساد والافساد في مهدها او تتعقبها في حال حدوثها وصولا إلى الأرضية التي ولّدتها.
والبحرين في اعتبارها احدى دول العالم الثالث التابع لآليات النظام الرأسمالي من دون ان يكون رأسماليا بمعنى الكلمة الدقيق، تعج بمختلف اشكال الفساد، كما ان له تاريخ. ويمكن القول ان ظاهرة الفساد في البحرين ارتبطت بقيام التنظيمات الادارية الحديثة منذ الربع الاول من القرن الفارط. ثم توسعت هذه الظاهرة بالتوسع في الاجهزة الادارية والمؤسساتية للدولة طوال القرن العشرين، ولم تدخل البحرين عقود الخمسينات والستينات من القرن الماضي إلا وقد بلغ الفساد درجات مرتفعة من حيث الكم والكيف، كما اصبح مكشوفا.
وللعلم ان من اسباب قيام حركة 54 - 56 هو تفشي الفساد بمختلف ألوانه واشكاله ودرجاته وفي المقدمة منه الفساد الاداري، والاخلاقي، والسياسي، إذ جاءت الحركة محاولة لاعادة الامور إلى نصابها ووضع حد لهذا الفساد المستشري الذي خرج من المؤسسات الرسمية ليشمل المجتمع برمته. لكن سلاح الفساد فيما يبدو كان اقوى من الحركة المذكورة، فقد انتصر في النهاية، وخصوصا ان الفساد له اوجه وقادر على التحايل.
وبموت الهيئة بحلول العقود الاربعة الاخيرة من القرن العشرين يكون الفساد في هذا البلد قد ضرب بأطنابه في كل مؤسسة وناحية. واصبح قطاع الدولة المكان المناسب لتنمية الفساد وتصديره إلى خارج مؤسسات الدولة مرورا بالشركات والقطاع الخاص وانتهاء بالمجتمع الاهلي/ المدني ومؤسساته، حتى الافراد لم ينجوا من الفساد المتمثل في شراء الذمم وهو أحد تجليات الفساد.
ان العقود الاربعة الاخيرة من حياة بلدنا بقدر ما شهدت نموا ملحوظا في جميع مناحي الحياة، فإنها شهدت في المقابل نموا مهولا في الفساد، المرتبط بالاستبداد والاستئثار بمقدرات البلاد والعباد واقصاء كل رأي او صوت معارض للاوضاع القائمة التي ينخرها الفساد المدعوم من سيادة الاستبداد السياسي وغياب الديمقراطية، وترهل الاجهزة والمؤسسات الحكومية من دون تجديد.
وفي ظل غياب الديمقراطية وسيادة اسلوب القبضة الحديد، وجد الفساد الارض المناسبة لأن يكون هو القانون، في حين ان العدالة والاستقامة والمبدئية ونظافة اليد والضمير هي الاستثناء الذي يجلب لصاحبه العزل وربما السجن، وفي احسن الاحوال الغربة.
ان ما نشهده الآن من فساد مستشر في مؤسسات الدولة وغير الدولة وفي المجتمع هو نتاج سنوات الجمر، هو فساد معمم ومقنن، فساد مسكوت عنه من قبل المعنيين.
انه فساد مدعوم بعدم المحاسبة، مدعوم بغياب الشفافية، مستور من المراكز المتنفذة هنا وهناك، وكل هذا وذاك مؤطر في اطر تبدو قانونية لكنها سياسية من حيث الجوهر، ذلك ان الاستبداد السياسي هو المسئول عن ظاهرة الفساد في بلدنا، هذا الفساد الذي دفع الناس إلى الاحتجاج علنا وبشتى السبل خلال العقد الأخير من القرن العشرين.
ان حركة 94 - 2000 هي في معنى من المعاني رد أو احتجاج على ظاهرة الفساد التي جلبت العوز والفاقة والتذمر والمستقبل المسدود لآلاف مؤلفة من ابناء هذا البلد، وهي رد ونتيجة عكسية له في الاتجاه، في محاولة لطلب الديمقراطية باعتبارها مدخلا لمقاومة الفساد العام. لأن الفساد لا يخلق مجتمعات سوية ولا ادارة سوية ولا مؤسسات متعافية سواء على صعيد الدولة أو على صعيد القطاع الخاص أو المجتمع بأكمله، كما لا ينشأ في كنفه اشخاص اسوياء، بل اشخاص مرضى فاقدي الوازع والضمير وأَمْيَل إلى الفساد والارتشاء والمحسوبية والواسطة وتوظيف الاقارب والاعوان والمحازبين والموالين وهدر الطاقات الخلاقة، التي يضيع في سبيلها مجتمع وبلد، وتختفي روح المبادرة والمبادأة وتسود اللامبالاة.
لكن الفساد ليس قدرا محتوما، فهو كأية ظاهرة له بداية او شروط ينمو فيها، وبمجرد انتفاء هذه الشروط لا يمكن ان تقوم له قائمة.
واذا ما حاولنا ان نضع ايدينا على الاسباب المباشرة لاتساع ظاهرة الفساد في بلدنا، فإنه يمكننا ان نقول ان غياب الديمقراطية هو أحد أهم الاسباب «لازدهار» هذه الظاهرة في بلدنا خلال العقود الاربعة الماضية.
والديمقراطية ليست مجرد كلمة، بل ممارسة. من وظائفها منع الفساد، محاسبة الفاسدين والمفسدين، اجراء البرامج الوقائية قبل وقوع الفساد، بعكس الاستبداد الذي يعتبر التربة المناسبة لخلق الفساد وزيادة اعداد المفسدين والفاسدين سواء في مؤسسات ومرافق الدولة أو في مؤسسات المجتمع وفعالياته الاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
وفي هذا السياق فإن ما جرى من اتجاه نحو الاصلاح السياسي ما هو إلا مؤشر على حجم ظاهرة الفساد التي يئن تحت وطأتها المجتمع في البحرين وكذلك مرافق ووزارات الدولة.
وإذا كان الفساد من طبيعته ان يتحصن تحت اقنعة مختلفة كيلا تنكشف سوءاته وفضائحه، فإنه لابد ان يُكتشف أو يسفر عن وجهه القبيح بطريقة او بأخرى. وغالبا في ظل الاوضاع القمعية التي يسودها الهاجس الامني والاستبداد يتم التعبير عن الفساد على صعيد الشارع أو الرأي العام من خلال النوادر والاقوال.
لكن ذلك لا يعني أن الفساد ليس له فوائد، فهو بالتأكيد مفيد لقلة من ابناء المجتمع والمتنفذين واصحاب الوجاهات.
أما الأضرار فإنها اكبر من الفوائد، بحيث يصاب المجتمع من جرائه باللامبالاة، وتفشي اخلاق الارتشاء بأسلوب «شيلني وأشيلك» وتشعب الفساد إلى مئة شعبة وشعبة، إذ الفساد المالي يستجلب فسادا اخلاقيا، وهذا بدوره يتطلب فسادا قيميا، وهذا بدوره يهيئ الارضية لفساد الضمائر، وهذا الاخير يؤدي إلى استمرار الحلقة الجهنمية في ظاهرة الفساد التي تعم البلاد والتي تحتمي بقوة القانون تارة، وبقوة الاستبداد السياسي في جميع الاحوال.
ان الاجراءات الاخيرة في مواجهة الفساد يمكن لها ان تحارب هذه الظاهرة المزمنة في بلادنا اذا ما طبقت على الارض، ولكن لكل ذلك شروط، اقل هذه الشروط سيادة القانون المانع للفساد والافساد على الكل من دون انتقائية او محاباة، قيام وسائل الاعلام بتعرية بؤر الفساد المعششة في البلد منذ اكثر من اربعين عاما، هذا فضلا عن محاسبة المفسدين بحسب القانون. اما الشرطا الاهم في اعتقادنا للقضاء على الفساد الشامل هو قيام الحرية السياسية القادرة على كشف مساوئ الفساد واخطبوطيته وتجفيف مصادره.
أما دون ذلك فيظل الفساد قائما ويتلون بألوان بحسب المرحلة متكيفا للحصول على فترة او فرصة اكثر مناسبة ليمارس مفاعيله ويعود ينخر في بنية المجتمع والدولة على قدر سواء.
باختصار الفساد آفة المجتمعات، ولكل آفة شروط لبقائها، وفي المقابل شروط لموتها، فهل اوجدنا حقيقة شروط موتها، ربما بدأنا الخطوة الاولى في الاتجاه الصحيح للقضاء على ظاهرة الفساد الشامل، وخطوة واحدة لا تكفي، بل لابد من خطوات وخطوات تصل إلى حد الاجراءات الجراحية في السياسة، في الاقتصاد، في التربية والتعليم، في الثقافة، في مختلف جوانب حياة المجتمع البحريني، ومن دون ذلك تبقى الامور على ما هي عليه، لا بل ستزيد. ان الفساد في بلدنا له جذوره التاريخية كما ان له اسبابه في الحاضر، وللقضاء عليه لابد من معالجة الحاضر، من اجل الحاضر نفسه ومن اجل المستقبل لاستبدال شروط الفساد المتعدد الاوجه والكيفيات بشروط الاستقامة والنظافة وسلامة مؤسسات الدولة والمجتمع من شرور الفساد والمفسدين
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي (كاتب بحريني)"العدد 111 - الأربعاء 25 ديسمبر 2002م الموافق 20 شوال 1423هـ