العدد 110 - الثلثاء 24 ديسمبر 2002م الموافق 19 شوال 1423هـ

حكم القانون: بين الخضوع والقبول

منصور الجمري editor [at] alwasatnews.com

رئيس التحرير

القانون المكتوب أو العرفي قد يعبر عن إرادة إلهية أو إرادة حاكم أو ارادة شعب أو إرادة مختلطة مما ذكر. والقوانين جميعها نابعة من قيمة عليا تنص على ضرورة الاستقرار في حياة الإنسان. ولذلك فإنه ومن دون وجود قانون مكتوب أو عرفي لا يمكن الحديث عن تعايش سلمي بين الناس. أما الدستور فهو «أبو القوانين» لأنه يشرح المبادئ والقواعد التي تسترشد بها الحكومة والمجتمع أثناء إصدار القوانين أو تطبيقها. فالدستور يتعامل مع القواعد التي تحدد مهمات الحكومة، ومن يقوم بتلك المهمات وحدود الصلاحيات الممنوحة للحكومة، كما يحدد الدستور حقوق المواطنين التي يجب عدم الاعتداء عليها أو الاضرار بها.

القانون من المفترض ان تصدره هيئة دستورية حاصلة على السند الشعبي من خلال انتخابات دورية للبرلمان وهو الذي تسند إليه مهمة إصدار القوانين. ولذلك فإن القانون له دوران: الأول تمكين الحكومة من السيطرة على المجتمع وتوجيهه، والثاني حماية حقوق المواطنين. والبرلمان يسعى لموازنة الدورين خلال عملية إصدار القوانين، لان الاخلال بأي من المطلبين يحدث خللا في المجتمع أو الحكومة أو الاثنين معا. وقد يسأل البعض إذا كان الهدف هو الاستقرار في العلاقات وضمان حقوق المجتمع، أوليس الأفضل ان نسلم الأمر لمجموعة وزراء أو مجموعة أشخاص يصدرون لنا القوانين وفي ذلك توفيرا للوقت وتخلصا من وجع الرأس الناتج عن الحوارات والمداولات والاستفسارات التي تسبق إصدار القوانين؟

إلا ان المشكلة هي ان القوانين الصادرة من أية جهة بحاجة إلى تطبيق. ولكي يطبق القانون فإن هناك وسيلتين: أما اخضاع الناس الذين يجب عليهم اطاعة القانون بوسائل قهرية، أو إيجاد حال «قبول» لدى الناس بطاعة القوانين.

ولتوضيح المقصود من طاعة القوانين نشير مثلا إلى الأحكام الصادرة من أقدم برلمان في عصرنا الحالي، وهو البرلمان البريطاني. فالقوانين الخاصة بالشئون المالية من اختصاص الغرفة المنتخبة فقط (مجلس العموم) وعندما يصدر قانون يعنى بالشئون المالية من مجلس العموم لا يمرر على مجلس اللوردات، وبالتالي فإن طريقة صدور القوانين المالية يوضح ما أردنا الإشارة إليه. ففي كل عام يقف وزير المالية عارضا موازنة الحكومة للسنة المقبلة، وتعتبر هذه الجلسة أهم جلسة يهتم بها الشعب البريطاني بكل فئاته، وتتم متابعة الجلسة على الراديو والتلفزيون أو بالحضور شخصيا للبرلمان. وتتضمن الموازنة قرارات حكومية بزيادة أو تخفيض الضرائب المفروضة على المواطنين. وعادة يعرض وزير المالية الموازنة وهو يتوقع مناقشتها بحدة من قبل أعضاء البرلمان. ولكن ما ان ينتهي النقاش وتتم الموافقة علي الموازنة، وإذا الشعب كله يلتزم بما جاء فيها من دون الحاجة إلى إنزال قوات الأمن العام أو الجيش لإخضاع الناس. فالشعب «يقبل» بالقانون حتى لو عارضه ديمقراطيا. ولذلك فإن من بين الضرائب التي تتأثر سنويا (مثلا) الضرائب على السجائر، وبمجرد انتهاء البرلمان من جلسته وإذا بكل الدكاكين والمجمعات ومحطات البترول التي تبيع السجائر تفرض الضريبة بصورة مباشرة والكل يقبل بذلك. وفي صباح اليوم التالي تتوجه البلاد كلها لتنفيذ القرارات الصادرة في قانون الموازنة السنوي، وكل بحسب تخصصه.

ان ما تهم الإشارة إليه هو ان «حكم القانون» لا يحتاج لقوات أمن أو جيش لفرضه واخضاع الشعب إليه، وإنما يتم ذلك عبر «قبول» الناس ورضاهم بالعملية التي صدرت بواسطتها القوانين. وعلى هذا الأساس فإن تكوين هيئة تشريعية مسئولة وفائقة التدريب ومستقلة وتحترم نفسها هو أفضل الطرق لتحصيل قبول الناس ورضاهم. أما إذا نظر الناس إلى القانون بصفته تعبيرا عن إرادة فوقية، وان هذه الإرادة الفوقية تراعي مصالح فئة فوقية أيضا، وإذا نظر الناس إلى المؤسسات الداخلة في التشريع على أنها جزء من هذه الفئة الفوقية أو تابع غير مستقل لتلك الفئة الفوقية، فإن الشعب يرفض القبول، ويحتاج الأمر حينها لعملية «اخضاع». وعملية الاخضاع هذه تقوم بها أجهزة الأمن والاستخبارات والجيش في الدول التي لا تستند إلى إرادة شعبها ولا تحترم رأي الناس. وهذا هو الفرق بين الدول الدكتاتورية والديمقراطية. فكلتاهما لديهما قوانين، واثنتاهما يريدان تطبيق «حكم القانون»، ولكن واحدة ترى القانون تمثيلا لإرادة فوقية ويتم اخضاع الناس بالقوة، وأخرى ترى القانون تعبيرا عن إرادة شعبية، ولذلك فإن الناس يقبلون ويرضون بحكم القانون من دون الحاجة لجيش أو مخابرات أو قمع أو شراسة.

ولا شك في أننا نسعى للحل الديمقراطي لكي نتأكد من «حكم القانون» ولسنا بحاجة إلى وسائل استثنائية وقوات اخضاعية، ولنترك ذلك للدول الدكتاتورية

إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"

العدد 110 - الثلثاء 24 ديسمبر 2002م الموافق 19 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً