أثارت تصريحات نائب الرئيس الأميركي جو بايدن بشأن توجيه «إسرائيل» ضربة عسكرية للمؤسسات النووية الإيرانية عاصفة من الألوان. البعض اعتبر أن كلام بايدن خطوة تراجعية عن الضوء الأحمر. والبعض اعتبره إشارة سياسية تعطي الضوء الأخضر لتل أبيب. وهناك من وضع التصريحات في «منزلة بين المنزلتين» لأن الكلام اتسم بالغموض فهو لا يرفض ولا يؤيد ولكنه لا يمنع في حال قررت «إسرائيل» اتخاذ هذا القرار.
الرأي الثالث وضع التصريحات في إطار الضوء الأصفر (أو البرتقالي) وهذا ما أكده المتحدث باسم البيت الأبيض توضيحا لكلام بايدن. فالمتحدث أكد أن بايدن لم يرسل إشارة خضراء وفي الآن لا ينصح ولا يؤيد إذا أرادت تل أبيب توجيه تلك الضربة العسكرية. والنفي أكده أيضا باراك أوباما في تصريح له من موسكو.
بايدن ترك لحكومة بنيامين نتنياهو حرية اتخاذ القرار في اعتبار أنها دولة «ذات سيادة» وهي في النهاية تتحمل مسئولية أفعالها وما ينتجه الفعل من ردود وتداعيات.
لاشك في أن تصريحات بايدن تشكل في إطارها السياسي خطوة تراجعية عن مواقف سابقة ولكنها في منتوجها الأخير لم تتراجع إلى درجة الضوء الأخضر. فالكلام الجديد يؤشر إلى بداية استعداد للتغيير في الموقف الأميركي الرسمي المعلن للرأي العام. والجديد فيه أن واشنطن أعطت إشارة صفراء وهي تعني ميدانيا التموضع في موقع الانتظار والاستعداد للهجوم أو التفاوض.
إعادة قراءة تصريحات بايدن تؤكد على الضوء الأصفر لأن الكلام جاء في معرض سجال بشأن منع واشنطن «إسرائيل» من توجيه تلك الضربة العسكرية. والجواب أطلق في سياق الرد على سؤال تكرر ثلاث مرات في صيغ مختلفة. وحين وجد بايدن أنه في موقع دفاعي ومحرج اضطر لتقديم جواب يتسم بالغموض لا يؤيد ولا يعارض وإنما يترك حرية القرار وتبعاته للطرف الإسرائيلي.
بايدن كما يبدو أراد أن ينفي تهمة أن الولايات المتحدة تلعب دور حارس الحدود لإيران أو أنها تقوم بدور الشرطي الذي يحمي أجواء إيران أو أنها تعطي فرصة زمنية لإيران لاستكمال مشروعها النووي المزعوم.
جواب بايدن جاء في صيغة النفي لا التأييد لأنه حاول الرد على تهم الحرس والشرطي والحماية من خلال أسئلة تحتمل اتهامات لإدارة واشنطن بأنها تمنع أو تعطل «إسرائيل» أو تعرقل خطة توجيه ضربة عسكرية. الجانب الآخر من جواب بايدن هو الأهم لأنه يشير إلى سحب واشنطن مسئولياتها من المسألة إذا اتخذت تل أبيب قرارها المغامر عسكريا. وهذا الكلام يعتبر إشارة واضحة لحكومة «إسرائيل» بأن تتحمل وحدها مسئولية أفعالها وألا تعتمد على واشنطن في الدفاع عنها في حال قررت اتخاذ مثل هذا القرار.
تصريحات بايدن الملتوية (منزلة بين المنزلتين) أطلقت عاصفة من الألوان لأن كل فريق قرأ نصف الكلام وترك نصفه الآخر.
«إسرائيل» اعتبرت أن بايدن أعطى الضوء الأخضر. واشنطن أوضحت أن كلام بايدن لا يعني مطلقا أنه أعطى إشارة خضراء بتوجيه ضربة عسكرية. والسلطة السياسية في إيران (رئيس مجلس الشورى علي لاريجاني) سارعت إلى تحميل الولايات المتحدة مسئولية أي ضربة عسكرية.
رد فعل طهران هو الجواب الذي تريد تل أبيب سماعه لأنه يوسع دائرة الاستهداف ويعطي حكومة «إسرائيل» تلك الفرصة لجرجرة واشنطن وتوريطها في مواجهة في حال تم توجيه تلك الضربة العسكرية. فالسلطة السياسية الإيرانية لم تقرأ جيدا تصريحات بايدن التي تشير إلى أن واشنطن غير جاهزة أو غير مستعدة لا للتغطية ولا للمنع وهي تترك لتل أبيب حق الخيار وبالتالي تحملها تبعات القرار ومسئولياته.
هذا الأمر لا يعني أن واشنطن لم تتراجع عن الضوء الأحمر خطوة إلى الوراء ولكنها أيضا لم تتراجع خطوة إضافية إلى الضوء الأخضر وإنما أوقفت الإشارة عند الضوء الأصفر وهي تشكل نقطة انتظارية خطرة لما تتضمنه من علامات استفهام.
الضوء الأصفر يفتح الموقف الأميركي على احتمالين العودة إلى الأحمر أو التراجع إلى الأخضر والقرار في نهاية المطاف موجود في عاصمتين: تل أبيب وطهران.
الغريب في المسألة أن تل أبيب وجدت في تصريحات بايدن إشارة خضراء وكذلك قرأت طهران أن التصريحات أعطت الضوء الأخضر وحمّلت واشنطن المسئولية في حال اتخذت «إسرائيل» قرار توجيه ضربة عسكرية. وهذا يفتح الباب أمام مواجهة كبرى تتجاوز حدود العاصمتين الإسرائيلية والإيرانية.
السلطة السياسية في طهران مطالبة بإعادة قراءة تصريحات بايدن من دون أوهام أو ضمانات أو تطمينات من إدارة جديدة تحاول قدر الإمكان التكيّف مع المعطيات الدولية والإقليمية. فالكلام الذي قاله نائب الرئيس الأميركي جاء وقت وصول أوباما إلى موسكو وتوصله إلى اتفاقات بشأن نصف المشكلات وترك النصف الآخر لمفاوضات لاحقة. كذلك جاء الكلام بعد إنهاء بايدن زيارته للعراق إثر المباشرة في تنفيذ خطة إعادة التموضع وإعلانه من بغداد أن دور الولايات المتحدة بات الآن يقتصر على الدبلوماسية. والكلام أيضا ترافق مع تسريبات صحافية قد تكون ملفقة عن جهود أميركية بشأن تطبيع خطوط جوية عربية مقابل تجميد حكومة تل أبيب مشروعات الاستيطان في الضفة المحتلة.
توقيت الكلام جاء في مناسبات ثلاث وهو يؤشر إلى إعادة تموضع سياسية في حال فشلت خطوات أوباما الطامحة نحو تطبيع العلاقات الأميركية دوليا و»شرق أوسطيا». فإعادة التموضع تعني ميدانيا التقدم خطوة في حقول (أفغانستان مثلا) والتراجع خطوة في ملفات (فلسطين مثلا) والانتقال إلى الوراء من الأحمر إلى الضوء الأصفر (الملف النووي الإيراني).
هذه التموضعات الدولية والإقليمية تؤشر إلى ظهور عقبات ميدانية وسياسية أخذت تضغط على أوباما في الإدارة الأميركية لتجميد تحركاته الدبلوماسية وتوقيفها في هامش انتظاري غامض لا تعرف معطياته اللونية. فالأصفر منزلة بين الأحمر والأخضر ويتضمن مفاجأة بين الاحتمالين.
تصريحات بايدن أثارت عاصفة من الألوان بسبب تنوع التفسيرات وتعدد التحليلات واختلاف القراءات ولكن الجديد فيها أنها شكلت خطوة تراجعية باتجاه هامش الانتظار (اليقظة والاستعداد للهجوم). وهذا المؤشر بحد ذاته يفتح أبواب المنطقة على احتمالات مختلفة تبدأ بالتطبيع وتنتهي بالتقويض.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2497 - الثلثاء 07 يوليو 2009م الموافق 14 رجب 1430هـ