العدد 109 - الإثنين 23 ديسمبر 2002م الموافق 18 شوال 1423هـ

صور العريفي العارية... شيء من رائحة ماضي مسرحنا

حسام ابو اصبع comments [at] alwasatnews.com

ربما كان المخرج المسرحي البحريني خليفة العريفي من معشر المحظوظين لأنه عاصر عدة أجيال مسرحية، فقد كان عطاؤه مؤثرا حين كانت الحركة المسرحية ـ سنضطر هنا إلى تنحية التميز الفني جانبا ـ تعمل بداب، وقل نشاطه حين بات المشهد العام باهتا إلا من عطاءات قليلة تحاول الحفر في الصخر، وتظل مستمسكة بآخر خيوط أحلامها، وتسكب القليل من الزيت المتبقي حتى تتمكن التروس من الدوران ولو ببطء شديد. والفنان العريفي كغيره من فنانينا المسرحيين معرّض باستمرار إلى ارتكاسة، حاله في ذلك حال الكثيرين الذين تهاوت خيوط المناعة أمام استمرارية تجاربهم. وبدهي انه إذا ما سقطت هذه الخيوط ان كانت جداريات ذات صلابة، أن تتحجر الأحلام حتى حين، أو إلى الأبد.

وليس بمستغرب التأكيد على أن الحركة المسرحية عندنا ذاهبة نحو أفق مسدود، إن لم تكن قد وصلت فعلا إلى مفترق الطرق في الانعطافة الأخيرة، على رغم توافر الخلصاء ممن لا همّ لهم في هذه الحياة إلا استفراغ طاقاتهم في أي فضاء مسرحي يكون كفيلا بتأدية المطلوب، المطلوب الذي ترومه ذواتهم... المطلوب الذي يضفي قيما جمالية على حياتهم... لكن يصعب تصنيف ذلك أو الحديث عنه من منطلق رصد وتتبع حركة مسرحية بما تحمله لفظة حركة من مضامين، تؤرخ لحركة تفاعل عام، وتألق نوعي مساير للتجربة في انحناءاتها المختلفة، وفي قراءتها لهذا المنتج، الذي لا يدغدغ البطون بقدر ما يخاطب الأحاسيس، ويتلاعب بالأخيلة، ويمنح البعد البصري فسحة، لتتبع تناغم العناصر والثيمات المسرحية كافة، من جسد الممثل إلى الفضاء السينوغرافي، إلى مختلف المؤثرات البصرية والسمعية الأخرى، إلى الحركة واللغة كشرط التواصل في مستوى من المستويات.

ومادام الأمر كذلك، سيتوجب علينا أن نؤمن إيمانا قويا بأن كل ما ينتج هو حصيلة منازعات وتجاذبات هائلة، في ظل غياب الدافع، وانتفاء الحافز... فليس كافيا على الإطلاق أن تخصص جائزة أو عدة جوائز بهدف التشجيع أو الارتقاء... لقد باتت المشكلة أكثر تجذرا في نفوس العاملين في هذا المجال، مع العلم أن جُلَّ التراكمات يرتفع منسوبها بشكل مخيف، وما لم تتم المصارحة ـ وليس تبادل التهم ـ فالوضع مرشح للتدهور أكثر فأكثر... وهذا التدهور معناه ببساطة طي هذه الصفحة التي كانت قبلة النظارة طوال عقود وعقود، ولا ألقي هنا باللائمة على طرف دون آخر، أو على جهة محددة، فالكل عليه أن يستعيد نصيبه من الهوة التي صنعها بنفسه، ومن العلاقات الملتبسة، والثقة المنهارة.

مناسبة هذا الكلام العرض الأخير الذي قدمه الفنان خليفة العريفي، وهو من تأليفه وإخراجه على مسرح «مدرسة الشيخ عبدالعزيز الثانوية»، والموسوم بـ «صور عارية». لقد كان المشهد العام مثيرا قبل العرض، وأخذت الخطوات تتسارع لمشاهدة عرض على خشبة... لقد أصبح تقديم عرض على خشبة ضربا من ضروب المستحيلات!! أو وهما استحكم في ذواتنا ـ أذكر أنه منذ فترة طويلة، طويلة لم تقدم أية مسرحية على خشبة ـ فالمأسوف عليها الصالة الثقافية كانت تؤدي جزءا من الغرض وليس الغرض كله. ولم تقف برودة الطقس المفاجئة حائلا دون لهيب الشوق لمشاهدة عرض العريفي، في تلك الصالة المدرسية.

وكانت المفاجأة الثانية في هذه المسرحية هذا الحشد الكبير من الممثلين، الذي ذكرنا بالأيام الخوالي حين كانت المسرحية تعج بالممثلين وتجسد طقس السوق بالحركة التي تموج في أرجائه، وبالأصوات المتعددة، وبالتفاوت في الألوان، وبالحوارات المتعددة، وباستثمار مختلف التقنيات، وبالحكاية نفسها. أراد العريفي، وهو الذي هجر القصة القصيرة بعد أن كان أحد فرسان «سيرة الجوع والصمت» بداية السبعينات الماضية، أن يكون رهانه المسرحي هذه المرة من نص كتبه بنفسه، وسبق أن فاز به بالجائزة الثانية في مسابقة التأليف المسرحي التي ينظمها قطاع الثقافة والتراث الوطني، في دورتها الأولى... «صور عارية» إذا كقنطرة انطلاق أولى تضعنا أمام إشكال كبير، وهو الإخلاص للمكتوب، ومحاولة تجسيده بحذافيره ـ على رغم قلة الإمكانات على جميع الصعد ـ وهو من الإشكالات التي تسهم في ترهل العرض، وامتداده بشكل رأسي، في حين أن المتوقع عكس ذلك، فالكتابة لها طقسها الخاص، وأدواتها التي لا يحدها شيء، فصب الخيال على الصفحات غير محكوم بمعايير أو موازين ـ على رغم القائمة الهائلة من الشروط المسبقة لإنجاز العمل كما طبعت في النصـ أما الانتقال إلى حيز التنفيذ والتجسيد، فلذلك شروطه الخاصة، وينبغياته الكثيرة.

ووسط ديكور مألوف، شاهدنا شيئا من أطيافه في الماضي، ووسط سوق مثّل قاسما مشتركا للكثير من المسرحيات المحلية وغير المحلية، تدور حوادث الصور، على شكل لوحات تنطلق من السوق معترك الحياة وتعود إليه بعد فواصل كثيرة، باستخدام تقنيات مسرحية مثل لعبة الخيال والظل، ولعبة العرائس، وتكون البداية مع إشاعات تتلقفها ألسن الممثلين عن كارثة قادمة لا محالة، نعرف في نهايات العرض أنها كانت مجرد لعبة/ كذبة، وكل واحد من الممثلين أسهم بدوره في تأجيج هذه الإشاعة، فهي الغول الذي سيلتهم المدن، أو المرض الذي سيفتك بالجميع... وبالتزامن مع هلع أهل السوق، يعاني الحاكم من مرض ويفشل الأطباء في علاجه، ويتبرع الممثل يوسف بوهلول بطل هذا العرض، والذي ينحو خطابه نحو وجهة أخرى، مختلفة، فهو الطبيب، العاشق المتيم، والمطارد من قبل السلطات، وهو الشخصية الوحيدة المتزنة في هذا العرض الساخر، الذي يشهد تقلبات، إذ يتحول المهرج في مشهد، إلى رجل سلطة في المشهد الذي يليه، ليعود مهرجا من جديد... وهكذا.

لعبة المسرحية الرئيسة هي سلسلة التحولات على جميع المستويات، على مستوى أداء الشخصيات، ودوران الحوادث. وحاول العريفي إيجاد صيغة متوازنة ـ كان ينبغي لها أن تكون لاذعة بشكل أكبر ـ في تحريك الممثلين، واستثمار مختلف الفضاءات، في تجسيد المفارقات الساخرة، وخلط الجد بالهزل، برز في هذا السياق خليل المطوع بشكل خاص. إذ أن المفارقة المراد إيصالها، والحوارات الساخرة المصاحبة لها قد وقفت عند حدود معينة، ولو تمت زحزحتها، وتحريكها لكن ذلك أكثر إبلاغية في إيصال المطلوب، إذ انتاب الرسالة الأساسية شيء من الغموض، وهي منطقة خطرة تتعارض مع طريقة عمل العريفي نفسه.

بقيت الإشارة إلى أن هذا العرض، على رغم بعض الاعتراضات قد مثّل فرصة جيدة، لإعادة اكتشافنا للطاقات التمثيلية التي هجرت المسرح مدة طويلة، وهي فرصة لهم أنفسهم لتجديد عهدهم بالمسرح وإزاحة شيء من الكسل الذي اعترى أجسادهم وحناجرهم. وتبقى «صور عارية» أولا وأخيرا محاولة لإلقاء حجر في المياه الراكدة وإعادة اختبار للأدوات التمثيلية والإخراجية، ومحاولة لعقد صلح من نوع ما مع الجمهور البحريني الذي نسي المسرح.

شارك في التمثيل كل من: يوسف بوهلول، غادة الفيحاني، عبدالله وليد، أحمد عيسى، طاهر محسن، أحمد الصايغ، إبراهيم الغانم، عبدالرحمن محمود، محمد سعد، سميرة عابد، حسن العصفور، خليل المطوع، أحمد مطر، عقيل عبدالله، علي سعيد أحمد، سيد علي سيد ناصر، هاني إبراهيم عبدالله

العدد 109 - الإثنين 23 ديسمبر 2002م الموافق 18 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً