تبدو العلاقة بين وزير الخارجية الاميركي كولن باول وبين شاعر النيل المرحوم حافظ ابراهيم بعيدة وغير متوقعة، ولكن ان يستشهد الوزير بقول حافظ الذي حفظناه عن ظهر قلب منذ نعومة اظفارنا، وهو البيت من قصيدة يربط فيها الشاعر بين التقدم وبين تعليم الفتاة، ان تتم هذه الاشارة في خطاب الشراكة لوزير الخارجية الاميركي، فذلك يعني بداية خيط جديد ولو رفيع في السياسة الاميركية، ينم عن وضع مشكلات العرب الحقيقية على اجندة العمل السياسي الاميركي، ومحاولة فهمها.
في السابق كانت الولايات المتحدة مهتمة بما يحقق مصالحها من دون النظر إلى مصالح الآخرين، وهو السواد الغالب في المنطقة العربية التي اعتبرت جماهيره ان الولايات المتحدة تريد، مثل غيرها من القوى الاستعمارية، جلب المصلحة ودرء المفسدة، التي تحقق مصالحها، من دون ان تقدم لهذه الجماهير اية فرصة للنمو الشامل او حتى تتفهم مشكلاتها.
خطاب باول الذي سمي اعلاميا (مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الاوسط) الذي صدر في وسط الشهر الجاري (ديسمبر/كانون الاول 2002) يتلمس قارئه ان فيه ثمة اهتماما حقيقيا بمستقبل المنطقة، ولكن هذا الاهتمام في الوقت الذي يسعى الى تأييد بعض السياسات العامة، يفتقر إلى البوح بآليات محددة حول كيفية تحقيق هذه السياسات.
عند قراءة المبادرة بتفاصيلها، لا يستطيع المتابع الا وان يقر بأهمية الافكار الواردة فيها، وهي افكار تعتمد في غالبيتها على التقرير الذي اصدرته الامم المتحدة وشارك فيه خبراء عرب منذ اشهر، وسمي بتقرير التنمية الانسانية العربية للعام 2002، قوبل هذا التقرير من جهات عربية وعالمية بالترحيب، وانتقد من جهات اخرى.
وان كان هذا التقرير يستجيب لحاجات وتطلعات كثيرين من العرب، الا انه بالتأكيد لا يمثل واقعا وصفيا لكل المدارس التنموية العربية، وربما افتقد اكثر ما افتقد، تصور لكيفية اقناع الرأي العام العربي بأهمية هذه الافكار، وارتباط مصالحها بتحقيقها.
ليس كل العرب مؤمنين بالافكار العامة التي طرحت في ذلك التقرير، مثل حتمية ارتباط التنمية السياسية بالتنمية الاقتصادية، او انها الطريق الوحيد للتنمية المرتجاة، لان هناك صيغ او اولويات اخرى لدى البعض مثل تحرير فلسطين، او منع المرأة من المشاركة في الحياة الاقتصادية، كوسيلة لفتح الطريق للرجل لحصوله على وظيفة! او غيرها من الصيغ التي نجحت في مجتمعات اخرى.
من هنا فإن اعلان المشاركة على رغم حثه على قراءة الواقع كما هو، افتقد قراءة الواقع في الحقيقة، وافتقد اكثر وفي الاساس معالجة الطريقة التي يمكن بها تغيير توجهات الرأي العام العربي، الذي خضع لسنوات طويلة لتشكيل من نوع آخر، نوع من ممانع ثابتة ومفاصل معادية للحياة الحديثة.
الذي سكت عنه خطاب المشاركة لوزير الخارجية، واشار اليه فقط من بعيد، هو المنطقة الجغرافية المستهدفة في الخطة، فلقد اشار إلى الدول ما بين البحر المتوسط والخليج، وهي اشارة للعرب، وربما إلى منطقتين على وجه الخصوص هما مصر والخليج، اذ يعتبر ان معظم افراد (القاعدة) قد قدموا من هاتين المنطقتين، ويشير خطاب باول إلى ذلك بقوله (من المفجع ان آلافا من رجالنا ونسائنا ماتوا في 11 سبتمبر/ايلول 2001، على ايدي ارهابيين ولدوا واصبحوا راديكاليين هناك) في هذه الاشارة ما لا يتطرق اليه الشك أي منطقة معنية اولا بالشراكة، وأي منطقة عربية معنية بقبول الأجندة الاميركية الجديدة كما وضحت خطوطها العامة في خطاب وزير الخارجية، انها الخليج.
هذه المنطقة التي هدد بعض الكتاب الاميركيين الى (تحويل نفطها إلى بصل) هي المعنية اولا بالأجندة الجديدة، وهي دول الخليج ومصر.
الا ان رد الفعل الآتية من دول هذه المنطقة المعنية بالتغيير مازالت في حدود الدفاع السلبي عن النفس، بدلا من العمل الايجابي، وربما كان اول خطوات العمل الايجابي هو مصارحة الرأي العام بما يجب ان يتم، من دون البحث عن ذرائع او تسويفات، وما دمنا نغذي الرأي العام بأفكار خاطئة خوفا من (انقلابه) علينا، فلن نقدم له الافكار الصحيحة من اجل تغييره إلى الافضل.
وفي تاريخ منطقة الخليج على وجه الخصوص، تقدم رجال كبار وتاريخيين إلى الرأي العام بأفكار صحيحة، واستطاعوا في الوقت المناسب ان يغيروا في توجهاته، وكان ذلك في مواجهة تيارات مضادة للتغيير، لم تكن ضعيفة او قليلة.
يحدثنا تاريخنا في القرن العشرين عن مواقف المغفور له الملك عبدالعزيز، والذي يريد ان يقرأ التاريخ سيجد ان الرجل واجه من الصعوبات ما تهد الجبال لا الرجال، ولكنه وقف امامها صلبا مبديا قناعته الواضحة في التغيير. احتج عليه البعض باستعمال آلات حديثة وقتها، على انها خارجة عن التقليد والتراث بل والدين، فقاوم ذلك الاحتجاج بما اوتي من بصيرة، وكان يتبنى الافكار التي تساعد على بناء الدولة الحديثة بصرف النظر عن اي مصدر جاءت، ما دامت تقدم للدولة الناشئة الامان والاستقرار، وتبعه المرحوم الملك فيصل، والقصة المشهورة في وقوفه صلبا رحمه الله مع تعليم البنات وهي معركة لا تحتاج إلى ترديد، وهكذا فعل المرحوم عبدالله السالم في الكويت، فقد تبنى، على رغم معارضة من هم في السلطة والقوة، مسيرة الديمقراطية في الكويت، حتى سماه الكويتيون في تاريخهم الحديث بأب الديمقراطية، وهكذا يفعل اليوم الملك حمد بن عيسى على رغم ما يكتنف مشروعه من مقاومة من قبل القوى التي تريد الامور ان تسير كما كانت، وهكذا فعل الشيخ زايد بن سلطان، حين حوّل منطقة بأسرها إلى دولة حديثة، ولم يبخل في مناصرة حركة التطوير والتغيير بمال او وقت، وقبل كل الافكار الحديثة للدولة.
المعضلة إذا في التغيير في منطقتنا هي (غياب الرؤية) اكثر منه (افتقاد القدرة)، فالقدرة على التغيير موجودة، حيث لا تكبلها قوانين، ولا تعترضها عقبات مادية او معنوية.
والرؤية تقول لنا ان من دول العالم المستقلة البالغ عددها اكثر من 200 دولة تقريبا، هناك حوالي 120 منها تتبنى شكلا من اشكال الديمقراطية الحديثة.
باتت الديمقراطية سلوكا من الصعب عدم التوافق معه او منعه، الا ان قطاعا واسعا من العالم العربي لم يصل بعد إلى تلك القناعة، اما اذا كان عدم وجود الحريات او النقص في العناية القانونية بحقوق المواطنين نساء ورجالا، يعيق التنمية الحقيقية، فذلك لا يحتاج إلى خطاب شراكة من السيد باول او برهان، يكفي انه اشار إلى قول حافظ ابراهيم ان (الام مدرسة) غير ان آلاف الكتب التي نشرتها النخبة العربية على امتداد قرن كامل تؤكد اهمية ومركزية تلك العلاقة، ففجوة التخلف التي نشتكي منها هي في الوقت نفسه فجوة الامل، وهي ان يصل متخذ القرار إلى اقتناع ان الوقت قد ازف لتكوين الرؤية، مهما كانت آلياتها تبدو صعبة للبعض.
كولن باول في خطاب الشراكة ردد رفضه لمقولة خاطئة هي ان بعض الثقافات لا تقبل الحريات، وهي مقولات لا تتنافى مع الحقيقة فقط، ولكنها تتصادم مع الامل ايضا، فليس هناك تصادم حضارات عندما يتعلق الامر بالحقوق والحاجات للانسان، سواء كان هذا الانسان في اميركا او آسيا او الشرق الاوسط، بوذيا او مسلما او من اهل الكتاب، ولعل من نافلة القول ترديد الحقيقة التاريخية ان المسلمين بعد دخولهم ايران اعتبروا الزرادشتيين اهل كتاب.
ليس في ما جاء به خطاب الشراكة الذي قدمه باول شيء جديد لم تطالب به النخب العربية على مر السنين، ما عطل المسيرة وأقعدها هو ضيق مساحة الحرية التي ابتلينا بها، التي ولدت فيما ولدت موجة الارهاب... الجديد فيه ان قائله هو وزير الخارجية الاميركي، وان مقولاته يمكن ان تتحول إلى سياسة متبعة. ولأن التاريخ علمنا ان لكل فعل رد فعل، فقد كان جزء من ردة الفعل على ضيق الحريات هي التعصب الاعمى، واذا كان لخطاب المشاركة الاميركية او خطتها ايجابية تذكر، فإنها اعادت طرح ومناقشة ما نوقش عشرات المرات، الا انها هذه المرة جاءت بلسان اميركي.
كاتب كويتي
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 109 - الإثنين 23 ديسمبر 2002م الموافق 18 شوال 1423هـ