العدد 109 - الإثنين 23 ديسمبر 2002م الموافق 18 شوال 1423هـ

متى تكتب الأمة تاريخها بعقلها وبأيدي أبنائها؟

على هامش التراويح: من يجرؤ على مناقشة التاريخ؟

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

لئلا نكون واهمين، ولا مخدوعين، نقول ان الاتفاق على رأي واحد مسألة مخالفة للطبيعة البشرية، وطلب الاجماع على رأي واحد اشبه بطلب المستحيل، فهو لم يحدث في اية حقبة من حقب التاريخ، حتى في ازمنة الانبياء اولي العزم. وما اوذي نبي مثلما اوذي محمد (ص)، وما دانت له «جنرالات» مكة إلا بعد أن دخل عليهم من اقطارها، ولم تكن هناك دعوة خير أحق بجمع الناس حولها من الدعوة السمحاء.

قتلة الانبياء وجد من يقدسهم، وحتى قاتل الحسين سبط الرسول (ص) له انصار يقدسونه ويعبدونه في شمال العراق حتى اليوم، فضلا عما وجد عبر القرون من محبين متيمين دافعوا عنه وحاولوا تبرئته من دم ضحاياه في كتبهم وكراساتهم المتداولة إلى اليوم.

دعاوى لا يتسع لها الفنجان

فلماذا يطرح البعض مقولات اكبر من الواقع، لا يتسع لها واقع البشر ولا نفوسهم، من الاجماع أو طلب الاتفاق. كبار امثال جمال الدين الافغاني، ما اضاعوا وقتهم في جدليات ليس لها قاع ولا قرار.

ثم ان «الوصول إلى الحق» مسألة نظرية سهلة الطرح، والكل بطبيعة الحال يعتبر نفسه على حق، ولكن من يكون الحكم؟ وكيف يدعي الحوار الهادف من نصب نفسه متحدثا رسميا وحيدا باسم المسلمين، ويعتبر غيره فاسقا وزنديقا وأخطر على الاسلام من اليهود. فإذا ضاعت البوصلة «الاسلامية» الاخلاقية الهادية تاه القوم في صحراء هذه القياسات الباطلة، وانتفى الحوار من الاساس.

ثم ان البحث عن الحق يحتاج إلى ان يخرج الانسان من جلده، ويبحث فعلا عن الحق وهو عار من المسبقات والمسلمات، بعد ذلك يقول: أنا بحثت وتوصلت. فمن منا يدعي انه بلغ تلك القمة؟ احدهم جاء إلى علي (ع) يبث شكوكه بمواقفه، فقال له انه امرؤ ملبّس عليه، يقيس الحق بالرجال ولا يقيس الرجال بالحق. ثم اطلق تلك الوصية الخالدة: «اعرف الحق تعرف اهله، واعرف الباطل تعرف اهله». ولو طبقت هذه القاعدة المنصفة ووجدت آذانا صاغية من المسلمين، لزالت كثير من الالتباسات.

واذا طرحت القضية من منظار الحق، فإننا سنجد انفسنا امام اكبر عقبة واجهت جميع الانبياء والمرسلين لأنهم لم يحاربوا القوم في جيوبهم واموالهم فحسب، كما يذهب إلى ذلك بعض الكتاب المحدثين، وإنما في طرق تفكيرهم ومعتقداتهم وتقاليدهم وما ألفوه من تاريخ راسخ وقصص اخذت من القدسية نصيبا وافرا حتى علت وتسامت على النقد والمراجعة، فضلا عن التجريح.

من يجرؤ على إعادة كتابة التاريخ؟

فالموضوع إذن اعمق من ذلك وأوسع: إنه عملية كتابة التاريخ، هذه العجينة المخلوطة بالزيف والدجل والاكاذيب والمغالطات، وشيء من صدق قليل. التاريخ لا يكتبه بطبيعة الحال، قديما أو حديثا، إلا المنتصرون. هتلر اليوم مثال الخسة والظلم والنذالة والاضطهاد وكل صفات الشيطان الرجيم جمعت فيه، لأنه هزم ودكت قوات الحلفاء بلاده وسوتها بالارض، فما عاد احد يدافع عنه أو ينتصر لقضيته مهما كانت، ولكن لو استطاع ان يهزم الروس والانجليز والاميركان، لاضطررنا إلى ان نعلم اطفالنا اللغة الالمانية، وكانت إحدى شروط التقدم إلى أية وظيفة في المصارف والمؤسسات والشركات في البلاد العربية اليوم!

السؤال الاكبر هو : هل نحن امة لديها من الشجاعة والنضج ما يؤهلانها لأن تقف وتعيد قراءة، ولا اقول كتابة، تاريخها من جديد. فالمشكلة أعمق وأكبر وأبعد من «قناة» بثت برنامجا له طابع حساس من لندن، أو كانت تلعب على التناقضات، وتنثر الملح على مواقع الجروح.

نحن امة تجتر تاريخها، وتعيش على قصص امجاده، ولكنها لا تريد ان تراجع نفسها، لذلك تقع في التجارب والاخطاء نفسها، ومن يعيش في القوقعة ليس بخارج منها فلا يلومن إلا نفسه إذا وجد نفسه في آخر القافلة.

اكتشاف ابن سبأ بين طه حسين والعسكري

من إحدى مشكلاتنا المستوطنة اننا لم نعرف بعد شيئا اسمه التراكم المعرفي، ولذلك نحن لا نبني على ما كان وإنما نبدأ من الصفر دائما. ويهمني ان اعرض مثالا حيا على ذلك، لكتابين يمثلان اكتشافين تاريخيين بالغي الخطورة، ولدا في مرحلة واحدة في الفترة الزمنية نفسها، أحدهما في النجف، والثاني في القاهرة. كلاهما تتبع قصة «عبدالله بن سبأ»، من مصادرها التاريخية الاولى، وكيف نمت واستطالت، وكيف انتهت إلى تحريف عميق في الطرح التاريخي ومسار حوادثه، وخلصا إلى نسف هذه الشخصية من الاساس، فالكاتب النجفي مرتضى العسكري اعتبرها «اسطورة»، لكنه انكفأ على نفسه وآثر عدم النشر: «فبقيت تلك المذكرات زهاء سبع سنين مطوية... وكان يمنعني من نشرها تهيب إثارة العواطف في الشرق المسلم خوفا من الفتنة». ولم يتشجع على النشر إلا بعد ان نشر طه حسين اهم كتبه: «الفتنة الكبرى». وهما من اهم ما كتب في ميدان الدراسات الاسلامية، ولكن المأساة اننا لا نبني على الجديد، وفننا الاكبر ان نعيد اجترار القديم، فنصنع من القماش القديم ثوبا ليس فيه من الجديد غير الازرار. وهذا ما يقودنا إلى مراجعة ما قام به دور الرواد. فمن محمد حسين هيكل، وعباس محمود العقاد، واحمد امين، وحتى الشعراء، حافظ ابراهيم وأحمد شوقي... طه حسين هو الوحيد الذي خرجت كتاباته قليلا أو كثيرا عن خط التاريخ الرسمي المتوارث فقامت عليه القيامة.

مساهمة دور الرواد

في بداية عصر النهضة، فتح الرواد اعينهم على واقع لا يسر الصديق. البلاد الاسلامية تحت الاحتلال، والركود هو السمة البارزة في الحياة الثقافية، وفي تلك الفترة كان الغربيون يمعنون في دراسة بلادنا بحثا وتمحيصا وتدقيقا، ويثيرون من الاشكالات على ما يدرسون. بعضها عن حق وبعضها عن باطل. هنا انبرى جيل «الرواد» لرد الشبهات وانشغلوا بالرد على الاشكالات، وتورطوا في عملية صنع الخبز من الدقيق القديم، وبالتالي لم يخرجوا إلا بقراءات مشابهة للقراءات القديمة. الانبهار امام عمل المستشرقين، واتخاذ موقف الدفاع، مجرد الدفاع، لم يحقق نقلة نوعية إلى الامام، ولو دأبوا على قراءة التاريخ بعيون واعية، لما جلس الناس اليوم يتفرجون على «حوارات المستقلة» مشدوهين وكأنهم يسمعون حوارا من عالم آخر. وكلمة حق لابد من قولها في تواضع تام: ان كثيرا مما جاء في «حوارات» المستقلة ليس جديدا، إلا لمن لم يقرأ التاريخ.

ونحن امة يتغلغل فيها التاريخ، هذه حقيقة حتى ولو لم نعترف بها. بيت شعر للفرزدق أو جرير يهيجنا، وبيت آخر لمجنون ليلى يذيب قلوبنا، وقصص الانصار والمهاجرين تعيش في قلوبنا، وامام هذه الهالات لا نملك الجرأة على الاقتراب من الهالات المقدسة. ومن اراد الاقتراب فعليه ان يدفع الثمن

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 109 - الإثنين 23 ديسمبر 2002م الموافق 18 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً