حين انفك مؤتمر المعارضة العراقية في لندن بصدور «البيان الختامي» الذي يدعو إلى قيام دولة فيدرالية، علقت الصحف الرسمية في بغداد على اجتماع هؤلاء بالقول: خونة.
كلمة «خونة» لم يعد لها معنى في المنطقة العربية. فالمفردة فقدت مدلولها من كثرة تكرارها. فهي تقال دائما وتطلق يمنة ويسرة على كل معارض أو مخالف أو صاحب رأي. وبسبب الافراط في استخدام تلك الكلمة من مختلف الجهات والانظمة تحولت مع الايام إلى مجرد تهمة لا قيمة لها تقال في كل مناسبة... بل تحولت الخيانة إلى وجهة نظر يمكن قراءة اسبابها وأخذ نتائجها في الاعتبار.
لذلك لا قيمة اعتبارية للكلمة مادامت تصدر عن نظام كلي اغلق ابوابه على كل وجهات النظر محولا الدولة إلى قلعة عسكرية يتحصن داخلها رجال الامن والحرس وكل الاجهزة التي اختصرت وظائفها إلى مهمة واحدة هي مراقبة المجتمع وملاحقة المعارضة.
اذا كانت مفردة «خونة» لا تنطبق على مجموعة المعارضات العراقية فما الكلمة الدقيقة التي يمكن استخدامها للدلالة على تلك الهيئة التي اجتمعت في لندن وانتخبت قيادة مؤقتة للعراق في مرحلة ما بعد اسقاط صدام؟
لا شك في ان تلك الهيئة تضم مجموعة ألوان من المعارضات وهي ليست بالضرورة كلها وطنية. بعضها فقد منذ زمن طويل صلته بالعراق وشعبه ولم يعد يكترث كثيرا لوضعه الكارثي الآن أو لتلك المصائب التي ستحل به مستقبلا في فترة الحرب المحتملة أو بعدها. البعض الاخر لايزال على صلة بشعبه ويمنع عليه العودة إلى بلاده والعيش بهدوء وسلام مع أهله.
إلى هؤلاء هناك الاحزاب وهي مجموعة منظمات سياسية تقلص تمثيلها الوطني بسبب انعزالها داخليا أو ابتعاد قيادتها أو ابعادها إلى الخارج. فانتهت تلك الاحزاب إلى هيئات فوقية يغلب عليها الطابع المحلي المصبوغ بالالوان العشائرية أو المذهبية أو الطائفية أو العرقية... وأحيانا الدينية.
حتى المنظمات العلمانية والليبرالية والاسلامية تمزقت إلى مجموعات جهوية ومناطقية تستطيع الادعاء لفظيا تمثيل شعب العراق في مختلف اطيافه الاجتماعية والجغرافية والاقوامية والقبائلية إلا انها في الواقع مشتتة في مشاعرها وباتت أسيرة ايديولوجيات لا تعني الشيء الكثير للمجتمع المحاصر والمظلوم في بلاد الرافدين. وبسبب التشرذم المذكور وتقلص الصلة بين ناس العراق ومعارضته في الخارج يمكن ان نفهم لماذا تضخمت كمية الهيئات والمنظمات والجهات المشاركة في مؤتمر لندن الاخير. فالتضخم ليس نتيجة الضخامة بل بسبب هزال التمثيل لكل فريق، الامر الذي فرض على الجهة المشرفة على تنظيم اللقاء تجميع كل الفئات من هنا وهناك لاضفاء شرعية معقولة على الاعضاء. وباستثناء المنظمات الاسلامية والكردية التي يمكن لها ادعاء تمثيل بعض ما تبقى من كتل بشرية لاتزال تتمتع حتى الان بخصوصية معينة أقرب إلى المحلية منها إلى الوطنية (في معنى التمثيل العام للوطن العراقي) يمكن القول ان معظم المشاركين في «مؤتمر لندن» مجرد وجهاء يريدون المشاركة في نسبة معينة من حصة «دولة المستقبل» من دون ان يتمتعوا بأية نسبة تمثيلية في الواقع الملموس. حتى ان بعض هؤلاء الوجهاء، وهم فئة قليلة لا يتجاوز عددها اصابع اليد، تنطبق عليه التهمة التي اطلقتها صحف بغداد الرسمية. هذا البعض قطع أو انقطعت صلته بأهل العراق منذ عقود واستبدلها بصلات متنوعة مع اجهزة مشبوهة لا تريد الخير للعراق سواء في ظل صدام أم بعده. هذا البعض هو مجرد سمسار يقايض بلده مقابل لعبه دور الغطاء المؤقت لسياسة كبرى في مرحلة قبل اسقاط صدام. وحين تتغير اللعبة سيلعب دور الوكيل التجاري بعد اسقاط النظام.
هذه الفئة، وهي قليلة، من اخطر انواع الناس، فهي باعت نفسها للشيطان منذ فترة طويلة وهي تكره العراق وتحتقر شعبه في القدر الذي تحقد فيه على صدام ونظامه. وخطورة هذه الفئة انها تتمتع بقوة تنظيرية مدعومة من اجهزة تعتمد عليها المعارضة في انواعها واطيافها كافة لاسقاط نظام صدام.
فهذه الفئة على ضعفها هي الاقوى في ادارة النظام البديل لا بسبب اتساع تمثيلها للمجتمع بل بسبب قلة تمثيلها وانقطاع صلتها بروح المجتمع ومصيره ومستقبله. ولأن هذه الفئة فقدت احاسيسها وصلاتها فهي الأقل اكتراثا إذ بلغت درجة قلة حرصها حد انها غير مهتمة بحرب دمار شامل تقضي على الملايين من الناس وتغير وجه العراق وخريطة المنطقة. والسؤال: هل تكون صورة عراق المستقبل على هيئة المعارضة التي اجتمعت في لندن أم انها ستتغير بتغير دولة العراق ونظامه؟
يرجح ان تركيبة المعارضة ستتغير ويحتمل ان تلعب تلك الفئة «الحقيرة» دورا أكبر بكثير من حجمها الحقيقي.
«الحقيرة» هي المفردة المناسبة لهذه الفئة وهي أبلغ في دلالتها السياسية من كلمة «خونة»
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 109 - الإثنين 23 ديسمبر 2002م الموافق 18 شوال 1423هـ