أسئلة كثيرة تثيرها التكتيكات الأميركية الجديدة في أكثر من مكان في العالم الإسلامي. فهل تلك السياسات المرنة هي بداية تفكير جديد لإدارة البيت الأبيض، أم هي مجرد اعتراف بالأمر الواقع، أم ه وسيلة لغاية أكبر، أم أنه الهدوء الذي يسبق العاصفة؟
قراءة سريعة للمشهد الأميركي بعد ضرب أفغانستان وتثبيت واشنطن أقدامها في دول وسط آسيا وجنوبها وحول بحر قزوين من خلال وجود عسكري مباشر أو اتفاقات أمنية مع تلك الدول الممتدة من غرب الصين إلى شمال إيران وشرق تركيا وجنوب روسيا... هذه القراءة تدل على أن الأهداف المرحلية تحققت من دون اعتراضات فعلية من دول المنطقة الكبرى وتحديدا الهند والصين وروسيا.
فهل هذه الأهداف كافية للهجوم أم أنها نقاط ارتكاز للدفاع في المستقبل وربما للهجوم في حال اقتضت الضرورة. المؤشرات تدل على أن الولايات المتحدة اكتفت مؤقتا بهذا القدر من المكاسب ونجحت في تأسيس مواقع نفوذ تضمن مصالحها لفترة ليست قصيرة. لذلك يلاحظ تراجع الكلام الأميركي عن مخاطر «الأصولية الإسلامية» في تلك الدائرة من العالم. فواشنطن التي أثارت زوابع سياسية دولية عن أفغانستان وباكستان ودول حوض قزوين وآسيا الوسطى لتبرير هجومها الاستراتيجي واخضاع المنطقة ووضعها تحت مظلتها الأمنية أوقفت كلامها ولم تعد تشير إلى المخاطر التي تهدد «العالم» من تلك الدائرة. فالهدف من إثارة الإنتباه والمخاوف تحقق نسبيا بل ان واشنطن باتت مستعدة لقبول وحتى التعامل مع أطراف اسلامية باكستانية فازت في الانتخابات التشريعية الأخيرة في اسلام آباد.
هذا الهدوء المصطنع في آسيا الوسطى سببه أكثر من اطمئنان الولايات المتحدة على مصالحها ومواقعها في تلك المنطقة. والأكثر له صلة بطموحات واشنطن وأهدافها الاستراتيجية في منطقة «الشرق الأوسط». فالشرق الأوسط هو الحلقة الثانية في سلسلة الأهداف الكبرى للاستراتيجية الأميركية الهجومية (الوقائية). وحتى تضمن واشنطن مواقعها وتثبت ما كسبته خلال سنة من وجودها في آسيا الوسطى لابد لها من استكماله بحلقة «الشرق الأوسط». وهذا الهدف لا يتم إلا بالبحث عن كبش فداء تضحي به كذريعة للهجوم على المنطقة.
منذ قرابة نصف سنة أوقفت واشنطن كلامها عن مخاطر «الأصولية» في آسيا الوسطى وانتقلت إلى التركيز على «الشرق الأوسط» منبهة إلى مخاطر «أسلحة الدمار الشامل» التي يملكها العراق... وهي أسلحة لا يعرف أولها من آخرها وعلى حكومة بغداد الاعتراف بها وبوجودها... و«إلا واجهت الدمار الشامل».
هذه و«إلا واجهت الدمار الشامل» تفسر إلى حد كبير أسباب تخفيف واشنطن لهجتها عن مخاطر «آسيا الوسطى» وانتقال التركيز على حلقة أخرى تريدها الولايات المتحدة لاستكمال تحقيق ما بدأته في أفغانستان ومحيطها.
وحتى تبرر إدارة البيت الأبيض تدخلها العسكري المباشر في «الشرق الأوسط» كان لابد لها من تحديد عنوان لهجومها فاختارت العراق لمئة سبب وسبب. إلا أن السبب الأول هو سهولة فتح ملفات النظام في ضوء تجارب مرة سابقة معه أو لاستكمال خطوات ناقصة لم تتحقق خلال حرب الخليج الثانية (1990 - 1991).
بعد أن حددت واشنطن عنوان الضحية المقبلة بحثت عن ذريعة للهجوم. ووجدتها في القرار الدولي 1441 وخلاصتها السياسية هي: اما اعتراف بغداد بأسلحة الدمار الشامل واما يواجه العراق الدمار الشامل. وهذا الأمر يعني فتح الباب على حرب جديدة يمكن أن نعرف كيف تبدأ ولكن لا ندري المدى الذي ستصل إليه. فالدلائل كلها تشير إلى أن الحرب آتية وهي تنتظر اللحظة التي تراها واشنطن مناسبة لتسديد ضربتها.
وأول دليل على أن إدارة البيت الأبيض تستعد لتلك اللحظة هو تركيز الاعلام الرسمي وتصريحات المسئولين على العراق وتهديده «السلام العالمي» وخفض الكلام عن أفغانستان وآسيا الوسطى ومخاطر الفراغ الأمني في جمهوريات بحر قزوين. فالتركيز على دائرة واحدة يهدف إلى منع تشتت الانتباه إلى مناطق أخرى. فالأسئلة عن التكتيكات الأميركية الجديدة تبدو أجوبتها واضحة، فالولايات المتحدة لجأت إلى سياسة الصمت والقبول بالأمر الواقع في جهات معنية من العالم الإسلامي لتمرير الوقت وتقطيعه. فالسياسة المرنة هي مجرد وسائل تكتيكية جديدة لغاية استراتيجية أكبر.
انه الهدوء الذي يسبق «عاصفة الصحراء»
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 108 - الأحد 22 ديسمبر 2002م الموافق 17 شوال 1423هـ