العدد 108 - الأحد 22 ديسمبر 2002م الموافق 17 شوال 1423هـ

بهجة النعناع

المنامة - حسين المحروس 

تحديث: 12 مايو 2017

أنظر إليك كأنك لا تشك، ولا تظن، وليس قبلك أحد.. كأنك طفل لم يلتق بالدهشة قط... كأن سيرتك سيرة إنسان لم يعد في داخله أشخاص عديدون. أليس الإنسان مسكونا بالآخرين؟ ظللت نقيا، أسكت كل البشرية في داخلك، وغدوت فردا صامتا، لم يعد له سوى اسم واحد يعرف به، وأنت الذي كنت كل الأسماء. تمنيتك سجينا، كلما ضيق السجان عليه فضاءه أيقظ المسكونين فيه. تمنيتك نبتة نعناع لا يقتلها القطع الكثير... لا يهلكها الحرث العميق... قوامها جذور تنمو كلما بالغت في استقبال جذور الأشجار والنباتات... تتداخل معها، وتظل رائحة الآخرين فيها. تمنيتك نعناعيا: تتحرى البهجة، وتنأى عن الإلغاء، وتنمو في كل الاتجاهات، ولا تلتفت لجذور الآخرين عليك.. يقطعونك فتنمو... يوصلونك بأي جزء آخر فتتصل في يسر من أي جهة فيك... ليس لك بداية ولا يعرف أحد لك نهاية.. ليس لك مداخل ولا مخارج، و... ، و...، و...، وأنت بدوي كل لحظة اجتثاث في شأن.

- أتعبتني (قلت له ذلك في حب)

- ليس ثمة شيء في داخلي (يتحدث فلا ينظر في وجهي)

- والذين يسكنون فيك؟

- من هم؟

- الذين في أقفاص هويتك؟

- لا أحد.

-لكنك مجموعة بشر... أنت عروق النعناع.

كعادتك كلما زاد النقاء داخلك تحن للخلوة و الرفض... أسليك... نحن المرايا يا حبيبي، وبنا تتعد. في صدري عيون كثيرة. هل أخبرتك أنني كلما خرجت في الحي، انصبت عيون الرجال على اهتزازات صدري، تحت العباءة السوداء؟! حتى الرغبة تحضر عيونا كثيرة وصور الآخرين وفق ما نشاء، وكيفما نشاء، و الوضع الذي نحب أن تكون عليه صورهم: يبتسمون، وينامون، و يتقلبون، و يضاجعون، ويتكهنون، ويترهبون، ويتصوفون، ويتأسلمون، ويتهودون، ويتبوذون، ويتنصرون، ويتعقلون، ويحاكون، ويقلدون، ويستقلون، ويتذكرون، ويتراهزون، ويعرفون ولا يعرفون.. ليس ثمة صفحة بيضاء، كل الأصوات تولد لكنها لا تموت، تظل تحوم وتحوم تبحث عن بهجة النعناع فينا.

هذه ذاتي سلسلة من ذوات... طرس يكتب فيه ثم يمحى، ويكتب فيه ثم يمحى... يكتب ثم يمحى. يكتب يمحى... يكتب... يمحى... كتابة على كتابة، تتزاحم فوقه الحروف المتضادة... ليس ثمة طرس لا أثر لوطأة حرف عليه.

أنا أرخبيل من الناس، والعصور، والكتابات، والقراءات، والتأويلات، والذكريات، والأفكار، والسير، والمقامات الموسيقية، والرواسب، والمياه، والطمي، والطين، والأوراق، والجذور، وطبقات الأرض، والسماء، والهواء، والنار، والذين راحوا، والذين لم يأتوا، وكل العناصر غير المتجانسة... أنا كل ذلك عندما تلتقي! أنا ثوب مرقع بآلاف الرقع. قمت من مكانك، وفتحت نافذة كانت موصدة منذ سنين؛ لأنها تكشف سطوح منازل الجيران... إيه... لم يدخل الهواء من هذه الجهة منذ الإغلاق، ولم ير أحد ضوء هذه الغرفة. لست في ثقة في أن الذي أشمه هو رائحة النعناع. قلت لي مترددا:

- أرى صورتي في عينك اليمنى.

- أرى صوري لا متناهية، وغير متشابهة، وغير ثابتة في عينيك: اليسرى واليمنى.

- بأي شيء أوقظ الساكنين في ؟ (تنظر في صدري شبه المفتوح)

- بالكتابة، وبهجة النعناع





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً