لا شك في أن تركيا الحديثة والدولة العثمانية السابقة ارتبطت برباط وثيق بمنطقة الشرق الأوسط وتحديدا بالعالم العربي. فهي جزء لا يتجزأ من كل، ضم الدول العربية في غرب آسيا وشمال افريقيا في إطار الدولة العثمانية التي لها ما لها وعليها ما عليها من حسنات أو سيئات. لكن أهم ما تحمد عليه هو الحفاظ على السلطنة الاسلامية في مرحلة دقيقة من التطور العالمي من الافتئات الاستعماري بقدر كبير، وان كان هذا الحفاظ اتسم بالجمود والاستغلال، ومن ثم ولد ذلك كله حساسية خاصة بين العرب والأتراك اثر التخلص من القبضة العثمانية وانتفاء تلك السلطنة العتيدة. وهذا ما ترك بصماته على علاقات الطرفين في العصر الحديث. فمن ناحية هناك ارتباط نابع من العقيدة الاسلامية، ومن ناحية أخرى هناك حسد نابع من توافر النفط في بعض الدول العربية ومن ثم توافر مصادر للثروة في تلك البلاد، وحسد مضاد نابع من توافر مصادر المياه الطبيعية إذ ينبع نهرا دجلة والفرات من الأراضي التركية، وهذا الحسد ليس حالا نفسية بل ان له آثاره السياسية والاقتصادية بين الطرفين، فترى تركيا ان المياه مورد طبيعي مثل النفط ويجب ان يعامل اقتصاديا المعاملة نفسها، كما ترى أن المصادر أو المنابع في أراضيها ومن حقها إقامة السدود لاستغلالها غير عابئة بحقوق الآخرين وهو ما لا تعتبره حقوقا على الاطلاق. ومن ناحية أخرى ترى الدول العربية المجاورة لتركيا رأيا مخالفا، فالمياه ليست النفط، كما ان المياه الجغرافية تختلف عن مياه الأنهار التي تعبر الدول، ومن ثم فان ثمة حقوقا تاريخية عبر العصور للدول المتشاطئة وللدول التي تنتمي إلى حوض النهر، وان هناك التزامات قانونية تطورت في الفكر القانوني الدولي، وخصوصا قانون الأنهار وفي الاتفاقات الدولية الكثيرة التي تنظم حقوق هذه الدول والتزاماتها. ومن ثم فان التعامل الدولي بالنسبة إلى الأنهار يختلف عن التعامل الدولي بالنسبة إلى النفط، الذي هو مورد من جوف الأرض مثل المياه الجوفية، وهو مركز في دولة وداخل حدودها بل ان النفط في حال وجوده على حدود دولتين يتم التفاهم والاتفاق لتنظيم استغلال ذلك. وبناء على هذا المنطق فلا يمكن قياس مياه الانهار بأبار النفط.
ومن ناحية ثالثة دخلت العلاقة العربية التركية، منذ ثورة اتاتورك وقضائه على الخلافة العثمانية، حساسية جديدة ارتبطت بسعي تركيا إلى الانخراط في أوروبا وخلع ردائها الاسلامي ونسيان ماضيها بحلوه ومره، ولكن هذا النسيان من الجانب التركي وما ارتبط به من سياسات للاندماج مع أوروبا لم يصادف قبولا كاملا في أوروبا من ناحية، كما انه لم يصادف قبولا كاملا من الشعب التركي بعد ذلك، الذي انشأ احزابا اسلامية بل أمكن لبعض هذه الاحزاب الوصول إلى السلطة بطريقة الانتخابات الديمقراطية، وأثار هذا الأمر شكوكا وهواجس لدى اطراف كثيرة. فأوروبا خشية من المد الاصولي الاسلامي ادركت ان تركيا على رغم ما تعلنه من سياسة علمانية لا تستطيع التخلص بصورة كاملة من تراثها الاسلامي وتاريخها، ومن ناحية ثانية أزعج المد الاسلامي داخل تركيا النخبة العسكرية الحاكمة من وراء الستار، والتي اسند إليها الدستور التركي منذ كمال اتاتورك الحفاظ على العلمانية التركية وخولها حق التدخل من خلال مجلس الأمن الوطني، ومن ناحية ثالثة أثار ذلك القلق دولا عربية مجاورة من أن المد الاصولي التركي في الشمال والمد الاصولي الايراني في الشرق سيعززان المد الاصولي في داخل الدول العربية ما يهدد استقرار المنطقة برمتها.
ولكي تقوي تركيا من صدقيتها الأوروبية وقوتها، ومن صدقيتها الاسلامية في الوقت نفسه سعت إلى استخدام الورقة الاسلامية سياسيا في مواجهة الجميع، وانضمت إلى «المؤتمر الاسلامي»، كما استضافت عددا من المؤسسات الاسلامية التراثية والمتصلة بالبحث التاريخي. ولكن عندما وصل حزب العدالة الاسلامي إلى السلطة في تركيا في منتصف تسعينات القرن العشرين بادر إلى الدعوة إلى تجمع اسلامي محدود ووجه الدعوة إلى ثمانية دول اسلامية هي: مصر ونيجيريا في افريقيا، وايران وباكستان وبنغلاديش وماليزيا واندونيسيا بالاضافة إلى تركيا وعرف هذا التجمع باسم مجموعة 8- (الدول الثماني النامية)، وحذفت الاشارة إلى أي توصيف اسلامي حتى لا يثير ذلك حفيظة دول أخرى، وكان المعيار للدول الثماني هو التمثيل الجغرافي من ناحية وعدد سكان كل دولة، ولذلك لم تضم دولا مهمة أخرى مثل السعودية لقلة السكان نسبيا على رغم ضخامة مواردها الاقتصادية ودورها الاسلامي وخصوصا في منظمة المؤتمر الاسلامي ووجود الحرمين الشريفين في أراضيها.
ولكن تركيا العلمانية ليست هي الدولة العثمانية التي رفض بعض سلاطينها وخصوصا السلطان عبدالحميد إقامة وطن لليهود في فلسطين، أو السماح بهجرتهم إليها، أو منحهم امتيازات معينة في تلك المنطقة، فتركيا العلمانية عينها على أوروبا وقلبها مع أميركا والمدخل لكل هذا هو «اسرائيل» ولذلك تقاربت الدولتان وعقدتا اتفاقات عسكرية واستراتيجية مهمة مما اعتبر اقرب للتحالف، وأثار ذلك حفيظة الكثير من الدول العربية وأنكرت تركيا ان تعاملها مع «اسرائيل» يؤثر أو يضر أو موجه ضد الدول العربية، ولكن ظلت الشكوك والهواجس والحساسيات التي يغذيها التاريخ وتعززها الشواهد في المواقف الدولية والمناورات العسكرية وزيارات كبار المسئولين بين «اسرائيل» وتركيا.
واليوم تقدم تركيا نموذجا جديدا لما يمكن ان نطلق عليه، تجاوزا، الديمقراطية الإسلامية، أو النموذج الإسلامي للديمقراطية، فحزب العدالة والتنمية الذي فاز في انتخابات حرة بغالبية الثلثين، وذلك بعد ان طوّر مفاهيمه لم يستند إلى الفكر الإسلامي التقليدي، وإنما استند إلى روح الإسلام الصحيح في العمل من أجل البناء والتنمية، من أجل العدالة والمساواة، تاركا الطقوس والشكليات والمظاهر جانبا.
ولعله مما يذكر ان المتخصصين في فلسفة علوم السياسة، خلصوا من دراسة مسيرة الحضارات المهمة في العالم، إلى أن ثمة ثلاثة مبادئ أساسية حكمت فلسفة السياسة عبر العصور، وهي: الحرية والعدالة والمساواة، وان النظم الليبرالية جعلت المبدأ المحوري لها هو مبدأ الحرية، بينما النظم ذات البعد الاجتماعي (الاشتراكية والشيوعية) جعلت المبدأ الحاكم لفكرها وسلوكها هو مبدأ المساواة، في حين ان الفكر الإسلامي استنادا إلى مصادره الصحيحة في القرآن الكريم والسنة جعل محوره مبدأ العدالة، ولذلك كان لفظ العادل من الأسماء الحسنى المرتبطة بالله عز وجل، كما ورد لفظ العدالة ومضمونه عشرات المرات في القرآن الكريم. ولابد أن نشير إلى ملاحظتين مهمتين هنا، الأولى ان كون المبدأ المحوري في فلسفة معينة لا يعني إغماض الطرف عن المبادئ الأخرى، والثانية ان القول إن هذا المبدأ المحوري في حضارة ما لا يعني تمسكها به من حيث الممارسة الفعلية، ذلك لأن حديثنا يرتبط بفلسفة السياسة، وليس بتطبيقاتها، وهو مجال بحث آخر.
ولكن ما يهمنا هنا هو النموذج السياسي الذي تقدمه تركيا، ولو نجح هذا النموذج فإنه يعني الإيذان ببروز تركيا الجديدة، ليست بالعثمانية، وليست بالعلمانية الأتاتوركية، إنها يمكن ان تكون أداة وصل حضاري وسياسي مع أوروبا، وخصوصا انها حريصة على الانتماء الأوروبي، والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهذا يفرض ضرورة التحاور للوصول إلى القواسم المشتركة.
ومن هنا فإنه في تقديري ان التحاور مع تركيا يمثل أهمية بالغة للدول العربية لما يتسم به من تعقيدات وحساسيات على الجانبين، ولما يمثله من مواجهة المخاطر الناجمة عن سوء الفهم، أو سوء التقدير والحساب، ولما يمكن ان ينتج عنه من مصلحة مشتركة للطرفين العربي والتركي. وهذا التحاور مثل غيره من التحاورات يجب ان يكون صريحا وواضحا، يبرز مصالح كل من الطرفين ومحاذير القطيعة والعداء وفوائد التعاون، ومن الضروري ان يدرك الجانب التركي ذلك، فهو له جذور تراثية إسلامية ومهما كانت طموحاته وتطلعاته نحو أوروبا، فإن الأخيرة من الواضح انها لم تقتنع، حتى الآن بصورة كاملة، بحججه وتتخوف من جذوره الإسلامية الكامنة، على رغم ما تدعيه من ديمقراطية وعلمانية. ولعله قد يكون مفيدا للعالم العربي وتركيا، كما هو مفيد للعالم العربي وإيران ان يتم التحاور من أجل خلق علاقة صحية وصحيحة وبناءة لمصالح كل طرف، وأن يلتزم الجميع ضبط النفس في حدود معينة من دون أن يسعى طرف إلى الافتئات على مصالح وأراضي وسيادة طرف آخر. ولعل من شكاوى تركيا ضد بعض الدول العربية ايواءها ومساندتها للجماعات الانفصالية من الاكراد ومن عدم اخذ الدول العربية في الحسبان مواقف تركيا بالنسبة إلى الأقلية التركية في قبرص وكل هذه مشكلات معقدة ومتداخلة ولكنها تحتاج إلى حوار داخل كل دولة، وداخل كل تجمع من الدول، وبين هذه التجمعات يهدف إلى بناء شرق أوسط جديد من خلال فلسفة التحاور السياسي والاكاديمي والثقافي المؤدي إلى مزيد من الفهم وإلى مزيد من التعاون الاقتصادي، والبعد عن الصراعات العسكرية بين العالم العربي ودول الجوار الجغرافي التي تشترك معه في جزء من التراث والتاريخ المتصل بالاسلام باعتباره عقيدة وبالحضارة الاسلامية باعتبارها تراثا، وفي مقدمة تلك الدول ايران وتركيا لوجود عناصر مشتركة كثيرة بين الحالتين مع الاقرار بوجود بعض الفوارق سواء من حيث مدى عمق الحضارتين الفارسية القديمة والتركية وبلاد الأناضول، أو من حيث المذهب الديني السائد، إذ السنة في تركيا والشيعة في ايران، وهنا يمكن ان يلعب الازهر الشريف في مصر دورا رائدا يدخل به سجلات القرن الحادي والعشرين الميلادي أو الخامس عشر الهجري كأداة لتوحيد الفكر وتقريب المفاهيم بين الدول الاسلامية المهمة بعد قرون من التصارع السياسي المغلف بالتصارع المذهبي الديني
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 107 - السبت 21 ديسمبر 2002م الموافق 16 شوال 1423هـ