إلى أي حد تستطيع أوروبا أن تستمر في تمددها، وهل تنجح في العقدين المقبلين في تحقيق فكرتها الجغرافية «من الأطلسي غربا إلى بحر الأورال شرقا؟»
نظرة سريعة إلى خريطة القارة السياسية تكشف بسرعة أن أوروبا ليست واحدة، هناك مجموعة «أوربات» في اتحاد واحد تنقصه القوة العسكرية المشتركة ويحتاج إلى وقت ليس بالقليل حتى يتوازن اقتصاديا ويتعادل في مستوياته الاجتماعية والثقافية. فأوروبا حتى الآن وإلى زمن بعيد هي «اتحاد هويات» كانت حتى الأمس القريب متضاربة قوميا في توجهاتها ومتقاتلة مذهبيا في حروبها الداخلية والخارجية.
أوروبا اذن، وحتى الأمد المنظور، هي ضد أوروبا. والاضافات الدورية إلى الاتحاد هي مجرد زوائد على هيكل مركزي نشأ في لحظة زمنية أملتها ظروف وحاجات واعتبارات «الحرب الباردة» في أعقاب الحرب العالمية الثانية. والآن انتهت مبررات الحرب الساخنة وتفككت عناصر الحرب الباردة وبدأ العالم بضغوط «صقور» الحزب الجمهوري في واشنطن يدخل فترة شديدة التعقيد يمكن تسميتها بالسلم الساخن. السلم الساخن يحتاج إلى تكتلات أقرب إلى الائتلاف والتجمعات الظرفية التي تسقط في لحظة انتفاء الحاجة وتحقيق الوظائف. هذا بالضبط ما تريده الولايات المتحدة من أوروبا بينما فكرة الاتحاد تتجه نحو دولة عظمى تطمح إلى تجاوز الدولة القومية التي هي الآن مصدر السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في معظم دول الاتحاد.
والسؤال: هل تسمح الولايات المتحدة بقيام اتحاد أوروبي منافس؟ الجواب السريع، لا. والجواب الهادئ يتطلب قراءة في الموقف الأميركي من زاويتين: المصالح المشتركة والمصلحة الخاصة.
من زاوية المصالح المشتركة، ترى واشنطن في الاتحاد الأوروبي ضرورة راهنة شرط ألا يستقل أمنيا ويؤسس مظلة عسكرية خاصة به. وهنا تبدأ زاوية المصلحة الخاصة. فالاتحاد وحتى لا يستقل لابد من اثارة المشكلات الدائمة لدوله حتى لا تصل إلى مستوى موحد في التفكير المشترك. واثارة المشكلات يمكن أن تأتي من جهتين: الأولى تشجيع الأقليات الأوروبية على التحرك مطالبة بالحرية والاستقلال كما جرى في يوغسلافيا سابقا. والثانية تشجيع الدول الأوروبية وغير الأوروبية (تركيا مثلا) على طلب الانضمام إلى الاتحاد.
اغراق أوروبا بالدول وحث الاتحاد على الاسراع في التوسع والامتداد يساوي في نتائجه السياسية تلك الاعتراضات السابقة على عدم التوسع. سابقا شكلت العقبات الأميركية واحدة من المشكلات التي واجهتها دول الاتحاد الكبرى حين كانت تبحث طلب عضوية دولة من القارة. الاعتراض الأميركي كان نقطة تعطيل خوفا من نهوض كتلة اقتصادية - نقدية منافسة. الآن اختلف التوجه الأميركي وانتقل إلى الضفة المعاكسة. فواشنطن بعد انهيار «الحرب الباردة» بدلت تكتيكها وبدأت تضغط على الاتحاد للاسراع في قبول طلبات انضمام الدول وهي كثيرة. الاكثار من الدول الأوروبية يسهم في اغراق الاتحاد بمشكلات داخلية تعطل امكانات توحده في المستقبل. فأوروبا حين تجمع في ظل اتحادها مختلف الجهات من شمالية وجنوبية وشرقية وغربية تصبح مكبلة في حركتها السياسية التوحيدية نتيجة الاختناق بكثرة الدول. فالزيادة في العدد ترفع من درجة صعوبات الاتحاد على الاستيعاب وتجعله قوة ثقيلة لا تستطيع التحرك بسهولة واتخاذ القرارات المشتركة. فكل الخطوات والمبررات ستكون عرضة للنقاش والمفاوضة واعادة البحث، الأمر الذي يعطي فرصة لواشنطن للتحرك بسرعة وفرض مبادراتها الخاصة على القارة الأوروبية.
أخطر مسألة تواجه الولايات المتحدة في فكرة الاتحاد الأوروبي ليست الجغرافيا (من الأطلسي إلى الأورال) بل السياسة وهي نجاح أوروبا في الانتقال من طور الدولة القومية إلى طور الدولة القارية (ما فوق القومية) وتحول تلك الدولة الاتحادية إلى مصدر مشترك للسلطات القضائية والتنفيذية والتشريعية كما هو أمر السلطات الأميركية. فالولايات المتحدة دولة قارية منذ فترة طويلة. وهي نجحت في تثبيت أقدامها الفيدرالية بعد حروبها الداخلية الأهلية في منتصف القرن التاسع عشر. وأميركا بهذا المعنى متقدمة سياسيا على مشروع «أوروبا واحدة» من الأطلسي إلى الأورال أكثر من 150 سنة. وحتى تصل أوروبا إلى ما وصلت إليه أميركا سياسيا تحتاج إلى فترة زمنية ليست قصيرة. فأوروبا حتى الآن مجرد فكرة جغرافية أقرب إلى التجمع البشري - الاقتصادي وأبعد من أن تكون حتى الآن قوة سياسية اتحادية. وحين تصل أوروبا إلى تلك المرحلة تكون الولايات المتحدة وصلت إلى ذروة الاشباع في تمددها لتبدأ مرحلة النزول... والغروب عن التاريخ
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 106 - الجمعة 20 ديسمبر 2002م الموافق 15 شوال 1423هـ