يتوقع مراقبون ودبلوماسيون في بغداد انه بانقضاء الشهر الأول من التفتيش الدولي قد تبدأ مرحلة الأزمات والتوترات بين فرق التفتيش والعراق. وحتى الآن كان واضحا التعاون الودي والإيجابي بينهما. غير أن بعض المراقبين هنا يتوقع أنه بانقضاء شهر العسل يمكن أن تثار الكثير من المشكلات بسرعة بين الجانبين في شأن القضايا المتعلقة بمضمون الاعلان الشامل الذي قدمه العراق عن أسلحة الدمار الشامل. وتعود هذه المشكلات حسب هؤلاء المراقبين في غالبيتها إلى الضغوط التي تمارسها الإدارة الأميركية والتي تقوم على التشكيك الكامل في صدقية الموقف العراقي والعمل بجميع الطرق على اختلاق الأزمات بين العراق وكل من لجنة (الإنموفيك) والوكالة الدولية للطاقة الذرية بما يؤدي إلى تقويض عمليات التفتيش وبالتالي إفساح الطريق أمام توجيه ضربة عسكرية ضد العراق. ويقول الخبير الاستراتيجي في بيت الحكمة في بغداد عبدالوهاب القصاب «ان المصدر الرئيسي المتوقع للتأزم بين العراق وفرق التفتيش بدأ يبرز من الآن وذلك من خلال بدء حملة التشكيك التي بدأتها واشنطن في صحة وكفاية المعلومات الواردة في التقرير الشامل الذي قدمه العراق بشأن قدراته في مجال أسلحة الدمار الشامل والذي يزيد حجمه على 12 ألف صفحة».
ويذكر أن إدارة الرئيس جورج بوش كانت تتبنى منذ البداية موقفا متشككا إزاء عمليات التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل العراقية إذ كانت ترى أن استئناف عملية التفتيش لن يكون فعالا لأنه إذا استؤنف التفتيش مجددا فإنه سيكون أقل جدوى مما كان عليه في الماضي لأن عمليات البحوث والتطوير والإنتاج لأسلحة الدمار الشامل لم تعد تجري في مواقع ثابتة وإنما أصبحت منتشرة في الكثير من مواقع تطوير الأسلحة سواء في وحدات متنقلة أو في ثكنات عسكرية أو في مقار مموهة وذلك من أجل تجنب التفتيش وخفض إمكانات التعرض للغارات الجوية. ولذلك تبنت الإدارة الأميركية موقفا متشككا إزاء مضمون التقرير العراقي الجديد حتى من قبل أن تتسلم النسخة الأصلية منه. وارتكزت الشكوك الأميركية منذ البداية على أن القيادة العراقية دأبت مرارا وتكرارا على محاولة خداع فرق التفتيش وتقديم معلومات إما مضللة أو غير كاملة بشأن قدراتها في مجال أسلحة الدمار الشامل. وعقب تسلمها نسختها من هذا التقرير شددت الإدارة الأميركية على أن هناك معلومات مهمة تغيب عن هذا التقرير وأن هذه المعلومات ربما تكون شديدة الأهمية للتعرف على قدرات العراق في مجالات التسلح النووي والكيماوي والبيولوجي والصاروخي. وتستند هذه التقييمات حسب المزاعم الأميركية إلى تقارير استخباراتية أميركية غير معلنة تقوم على أن لدى العراق قدرات إضافية لم يعلن عنها حتى الآن في أنواع التسلح المذكورة.
بيد أن الباحث في مركز دراسات دولية في جامعة بغداد محمود عزت يقول «انه اذا كان موقف الولايات المتحدة واضحا بسبب أنها في الأساس ارادت من المفتشين أن يكونوا جسرها للحرب على العراق، فإن غير الواضح هو موقف مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي الذي أشار إلى أن التقرير العراقي الشامل يتضمن في غالبيته معلومات قديمة بشأن القدرات العراقية في مجال أسلحة الدمار الشامل وليس هناك إلا القليل من المعلومات الجديدة في هذا الصدد، فيما بدا على أنه إشارة ضمنية إلى عدم صدقية الجانب العراقي في التعامل مع فرق التفتيش الدولية». ويضيف الباحث عزت «في الواقع ان هذا القول تحديدا ينطوي على مغالطة واضحة. فمن الطبيعي أن يكون معظم التقرير العراقي متعلقا بفترات بعيدة تعود إلى السبعينات والثمانينات لأنها كانت فترة النشاط الرئيسي لبرامج التسلح العراقية، كما أن من الطبيعي أن يكون الكثير مما ورد في التقرير العراقي موجودا بالفعل لدى مجلس الأمن إذ كان قد جرى تقديم تلك المعلومات من قبل لجنة الأمم المتحدة الخاصة (اليونسكوم) والوكالة الدولية للطاقة الذرية في فترة ما قبل ديسمبر/كانون الأول 1998، ومع صدور القرار 1441 عادت عملية التفتيش إلى نقطة الصفر من جديد مما كان يقتضي من العراق إعادة صوغ تقرير شامل عن قدراته المذكورة بما في ذلك المعلومات التي كان قد سبق له تقديمها من قبل».
ويعرب دبلوماسي عربي عن توقعه من «ان المصدر الحقيقي الذي يمكن أن يكون عنصرا للتوتر بين العراق وفرق التفتيش يتمثل في التشديد الأميركي على ضرورة قيام العراق بتقديم قائمة كاملة بأسماء جميع العلماء والفنيين العاملين في برامج العراق في مجال أسلحة الدمار الشامل علاوة على تفعيل المادة الخاصة بإخراج العلماء العراقيين وعائلاتهم إلى خارج العراق للحصول على ما لديهم من معلومات بعيدا عن أية ضغوط محتملة من جانب السلطات العراقية». ويرى الدبلوماسي أن هذه المسألة يمكن أن تشكل سببا للتوتر بين رئيس لجنة (الإنموفيك) هانز بليكس والإدارة الأميركية. ويقول: «إن بليكس أكد مرارا أنه قد لا يحتاج إلى تنفيذ هذه المادة في حين أن المسئولين الأميركيين يتمسكون بها بشدة». ومن المتوقع أن تكون هذه المسألة بمثابة المصدر الرئيسي للتوتر بين العراق وفرق التفتيش لأنها ترتبط في الواقع بقضية أكبر بكثير وهي رغبة الولايات المتحدة في حرمان العراق مما لديه من ثروة بشرية ضخمة في المجالات العلمية المرتبطة بالتقدم العلمي عموما وبالأسلحة خصوصا. وترى الإدارة الأميركية أن بقاء هذه الثروة البشرية لدى العراق يمكن أن يتيح له معاودة بدء برامجه المختلفة في المجالات النووية والكيماوية والبيولوجية بمجرد رفع العقوبات المفروضة عليه. وتختلف التقديرات المتاحة بشأن حجم العلماء والفنيين العراقيين العاملين في مجالات التسلح. فالبعض يقدرها بما لا يقل عن 7 آلاف خبير وفني عراقي في حين أن البعض الآخر يذهب إلى أنها لا تقل عن 20 ألفا.
وترى «بان محمد» من الجامعة المستنصرية «أن الموقف الأميركي ينطوي في هذا الصدد على رغبة أميركية للانتقام من العراق حكومة وشعبا لأنه حتى إذا انتهت عملية التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل العراقية وتم رفع العقوبات المفروضة عليه فإن العراق سوف يظل خاضعا لبرنامج صارم ودقيق للرقابة والتفتيش طويل المدى على وارداته وصادراته بما يضمن عدم قيامه مستقبلا بمعاودة تنشيط البرامج المذكورة حتى في حال احتفاظه بثروته البشرية التي كانت تعمل سابقا في المجالات النووية والكيماوية والبيولوجية والصاروخية».
ويتفق معظم المراقبين هنا على أن هذه التوترات الكامنة تحت الرماد ستحاول بغداد أن تتعاطى معها بأقصى قدر ممكن من الحكمة بما يسقط ذريعة العدوان من أيدي أميركا مع أن هناك شبه يقين لدى معظم المراقبين من أن الحرب الأميركية على العراق واقعة في كل الأحوال
العدد 105 - الخميس 19 ديسمبر 2002م الموافق 14 شوال 1423هـ