العدد 105 - الخميس 19 ديسمبر 2002م الموافق 14 شوال 1423هـ

تونس تفتح ملف السجون والسجناء

ظاهرة استعمال شيكات من دون رصيد تفاقمت في السنوات الأخيرة

صلاح الدين الجورشي comments [at] alwasatnews.com

.

قرر الرئيس زين العابدين بن علي تشكيل لجنة تتولى القيام بتقصي الحقائق عن أوضاع السجون التونسية. جاء هذا القرار في ضوء ما راج حديثا من أخبار وتقارير تشير إلى تدهور أوضاع الإقامة في هذه المعتقلات. وليست هذه المرة الأولى التي تنظم فيها حملة في هذا السياق أو التي يثار فيها ملف السجون والمساجين في تونس، اذ سبق لمنظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية أن أصدرت بيانات وتقارير في مناسبات كثيرة وطالبت بالسماح لها بالمشاركة في أي تحقيق يسمح به للتأكد من صحة ما يشاع عن «سوء الإقامة والمعاملة». وهو ما دفع بإحدى الصحف المحلية التي تتجنب عادة الاقتراب من مثل هذه القضايا الساخنة أن تنشر ملفا عن هذا الموضوع وتتساءل: «هل يجب إصلاح السجون في تونس؟».

تجمع كل الشهادات التي يدلي بها سجناء سابقون على القول إن الاكتظاظ يمثل أهم معضلة واجهتم أثناء قضائهم للعقوبة. وفي هذا السياق أشار «المركز الدولي للدراسات السجنية» التابع لجامعة كامبريدج البريطانية في تقريره الأخير إلى أن تونس تعتبر من بين أهم البلدان من حيث عدد السجناء مقارنة بعدد السكان والظروف الاقتصادية والاجتماعية. فالتقرير يقدر عدد نزلاء السجون التونسية بـ (23165) سجينا، أي ما يعادل 253 معتقلا مقابل كل مئة ألف نسمة، في حين أن النسبة تقل عن ذلك في بلدان مثل المغرب والجزائر على رغم أن عدد سكانهما ثلاثة أضعاف مقارنة بالشعب التونسي الذي لا يتجاوز أفراده عشرة ملايين نسمة. كما تفيد الاحصاءات بأن السبب المباشر في ظاهرة الاكتظاظ هو التضخم الذي سجل خلال السنوات الأخيرة في نسبة المساجين الذين حوكموا بتهم تتعلق باستهلاك أو الاتجار في المخدرات والجرائم المالية مثل ظاهرة استعمال الشيك من دون رصيد التي تفاقمت خلال السنوات الأخيرة (36,70 في المئة من مجموع القضايا التي نظرت فيها المحاكم خلال السنة الماضية).

وذكر الصحافي هادي بن يحمد في مقاله المنشور في مجلة (حقائق)، والذي أحيل بسببه مع صاحب المجلة إلى التحقيق، أن السجن المدني في تونس الذي يقع في قلب العاصمة، وتم إنشاؤه في العام 1909 لاستيعاب 1500 سجين على أقصى تقدير، أصبح خلال السنوات الأخيرة يحوي ما لا يقل عن 6000 سجين، وهي ظاهرة تتكرر في كل السجون التونسية الكبرى التي يبلغ عددها الاجمالي 27 سجنا و4 إصلاحيات، و6 مراكز للعمل التربوي.

منظمات حقوق الإنسان تطرق أبواب السجون بقوة

من جهتها تعرضت منظمات الحقوق المحلية مثل الرابطة التونسية ومجلس الحريات (جمعية غير مرخص لها بالنشاط) في تقاريرها إلى نقائص أخرى أشد خطورة مثل انتشار بعض الأمراض، وضعف العناية الصحية بالسجناء، وتفشي ظاهرة الاعتداء الجنسي. كما اتهمت هذه المنظمات المصالح السجنية بتعذيب بعض المعتقلين، واستعرضت عددا من حالات سجناء الحق العام الذين قيل إنهم توفوا خلال السنة الماضية في «ظروف مشبوهة». وقد سبق للرابطة التونسية أن اعتبرت، في تقريرها السنوي، العام الماضي، سنة المطالبة بإصلاح السجون، بعد أن سجلت عدة وفيات في صفوف المحكوم عليهم في قضايا حق عام.

هذا ويدور جدل بين الحكومة ومختلف منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية حول أوضاع السجون. وفي هذا السياق تنفي الحكومة موت أي سجين في ظروف غير طبيعية، وتؤكد رعايتها المستمرة للسجون، وترفض تهمة تفشي ظاهرة تعنيف السجناء، وتؤكد وزارة العدل أنها أجرت تحقيقا قضائيا في كل حال وفاة . كما تشير الحكومة إلى جملة القرارات المهمة التي تم اتخاذها خلال السنوات الأخيرة لتحسين الأوضاع السجنية مثل وضع قانون للسجناء يضبط حقوقهم وواجباتهم، كما تمت إحالة مسئولية الإشراف على السجون إلى وزارة العدل بعد أن كانت من مشمولات وزارة الداخلية، وتم أيضا تعيين قاض مختص لمراقبة تنفيذ العقوبات، إضافة إلى تطوير نظام الإعانة العدلية، وتعهد الدولة بدفع التعويضات المناسبة للمحكوم عليهم في حال ثبوت براءتهم، والأخذ بنظام «العقوبات البديلة» عن عقوبة السجن التي تطالب بها الكثير من المنظمات الدولية المهتمة بالسجون.

جمعيات حقوق الإنسان لا تقلل من أهمية هذه الإجراءات وغيرها، لكنها تتهم المصالح الإدارية بعدم تنفيذ الكثير من تلك القرارات الرئاسية. ذكرت مجلة (حقائق) أن السجين الجديد قد يبقى أحيانا سبعة أشهر ينتظر دوره للحصول على مكان في سرير يشاركه فيه ثلاثة آخرون، في حين يدعو نظام السجون الجديد المؤرخ في 14 مايو/أيار 2001 في مادته (15)إدارة السجن إلى «أن توفر لكل سجين عند إيداعه فراشا فرديا وما يلزمه من غطاء». كما تطالب الجمعيات الحقوقية بتمكينها من زيارة السجون للتأكد بنفسها من صحة الشكاوى التي تصلها. وفي هذا السياق تعتبر هذه المنظمات أن «الهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية» - التي كلف رئيسها زكريا بن مصطفى بتشكيل لجنة تقصي للتحري في أوضاع الإقامة في السجون - هيئة حكومية، وبالتالي فإن عدم استقلاليتها سيقلل من صدقية تقريرها النهائي الذي سترفعه إلى رئيس الدولة. لكن الصحيفة الرسمية أو القريبة من السلطة تؤكد أن هذه الهيئة هي «مؤسسة حقوقية ذات صدقية كبيرة» وأنه «إذا كانت هناك تجاوزات فإنه سيتم التصدي لها وإعادة الأمور إلى نصابها، أما الإيجابيات فسيتم دعمها وتطوريها» (صحيفة الصريح).

«مساجين الرأي»:

الحكومة تنفي والمنظمات تؤكد

موضوع آخر يثير الجدل بين المعارضين ونشطاء حقوق الإنسان والحكومة يتعلق بملف «سجناء الرأي». فمن جهة تنفي الأوساط الرسمية وجود معتقلين سياسيين في تونس، اذ أكد الوزير الأول محمد الغنونشي في رده حديثا على أسئلة أعضاء مجلس النواب عند مناقشة موازنة الدولة أن «من تم إصدار أحكام بشأنهم قد قاموا بجرائم ومخالفات حق عام». وفي المقابل تتعالى الأصوات في الداخل والخارج من مختلف الاتجاهات السياسية مطالبة بالعفو التشريعي العام وإطلاق سراح المئات من «سجناء الرأي» الذين يعرفون في قاموس السجون بسجناء «الصبغة الخاصة». وقد حوكمت الغالبية الساحقة من هؤلاء بتهمة الانتماء إلى «حركة النهضة» المحظورة، وصدرت في شأنهم الأحكام بالسجن منذ مطلع التسعينات بلغت في بعض الحالات مدى الحياة. وتشكلت حديثا جمعية للدفاع عن المساجين السياسيين بادرت إلى تأسيسها شخصيات متعددة المشارب، لكن السلطات رفضت الاعتراف بها أو التعامل معها. فالسلطة متمسكة بموقفها المتشدد تجاه ما يسمى بـ «ظاهرة الإسلام السياسي»، وترى فيها خطرا لابد من مقاومته بكل الوسائل ومواصلة العمل على «تجفيف منابعها».

هذا وتتوقع بعض المصادر أن يتخذ الرئيس بن علي، بعد انتهاء لجنة التحقيق من مهمتها، بعض الإجراءات للتخفيف من حدة معاناة المعتقلين، خصوصا فيما يتعلق بظاهرة الاكتظاظ، وإن يعتقد البعض أن المسألة تتطلب تغييرا جذريا، ويدعون بالإضافة إلى العفو التشريعي العام إلى معالجة الأسباب العميقة لمختلف أنواع الجرائم التي تضخمت خلال السنوات الأخيرة

العدد 105 - الخميس 19 ديسمبر 2002م الموافق 14 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً