العدد 105 - الخميس 19 ديسمبر 2002م الموافق 14 شوال 1423هـ

يالطا معكوسة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية التقى زعماء الحرب الثلاثة في يالطا لبحث مصير أوروبا بعد الخلاص من نظام هتلر. مثّل ستالين الجانب السوفياتي، وتشرشل عن بريطانيا، وروزفلت عن الولايات المتحدة. وفي الدقيقة الأولى من الاجتماع قدم روزفلت ورقة مشتركة بينه وبين تشرشل للزعيم السوفياتي، قرأ ستالين الورقة وهز رأسه موافقا ووضعها في جيبه. وانتهى الاجتماع في أقل من نصف ساعة.

أخطر اجتماع في تاريخ القرن العشرين انتهى في دقائق ليقرر مصير قارة لمدة تزيد على عقود أربعة. ماذا تقول الورقة؟ هي مسودة مشروع (عرض لا يمكن رفضه) لاقتسام الغنيمة مناصفة بين الاتحاد السوفياتي من جهة والولايات المتحدة وبريطانيا من جهة مقابلة. تقترح الورقة الآتي: أوروبا الشرقية للاتحاد السوفياتي وأوروبا الغربية للولايات المتحدة، ألمانيا الشرقية (ومعها برلين الشرقية) لموسكو وألمانيا الغربية (ومعها برلين الغربية) للغرب، تستثنى من أوروبا الشرقية ثلاث دول تكون تحت النفوذ السوفياتي مع حصة نسبية للغرب وهي بولندا (الواقعة على بحر البلطيق)، ورومانيا (الواقعة على البحر الأسود)، ويوغوسلافيا (الواقعة على البحر المتوسط). هذه الدول الشرقية تنتمي إلى الكتلة السوفياتية (سياسيا، واقتصاديا، وعسكريا) ولكنها تتميز بخصوصية ثقافية وتجارية يكون للغرب فيها مواقع نفوذ.

يضيف علماء التاريخ أن فكرة العرض بريطانية وهي من اقتراح تشرشل. فرئيس الوزراء آنذاك أقنع الرئيس الأميركي قبل شهور من وفاته، وحين بدأ غبار الحرب ينجلي عن هزيمة كاسحة لألمانيا. واعتمد تشرشل على عناصر مختلفة لإقناع روزفلت. منها أن الجيش السوفياتي موجود في معظم دول أوروبا الشرقية ومن الصعب إقناع قادته بالانسحاب من دون حروب، ومنها أن أوروبا الآن مدمرة وفي وضع ضعيف اقتصاديا ولا تقوى عسكريا على خوض سلسلة حروب في جبهة شديدة التعقيد سكانيا ووعرة جغرافيا، ومنها أن أوروبا الغربية بحاجة إلى وقت للراحة لمدة 10 ـ 15 سنة تعيد خلالها إعمار ما دمرته الحرب وترمم نفسها واقتصادها. ومنها أن أوروبا الشرقية مؤلفة من دول غير متجانسة وفيها الكثير من المشكلات والخلافات والصراعات الاثنية والقومية والدينية والمذهبية وتحتوي على مجموعات مختلفة من الأقليات التي تميل إلى القلاقل أكثر من الاستقرار. وأخيرا وهذا هو الأهم بالنسبة إلى تشرشل أن الغرب يقدم لموسكو ما هي أصلا حاصلة عليه عن طريق القوة (تحرير أوروبا الشرقية من الاحتلال النازي). فالعرض هو أصلا مجرد إقرار بالواقع وإضفاء الشرعية على ما أفرزته الحرب وترك المسائل كما هي أفضل من محاولة تعديلها في ظروف دولية تميل فيها كفة القوة إلى مصلحة الكرملين. ووافق روزفلت.

العرض كان مغريا إلى درجة أن ستالين وافق عليه بهز رأسه ولم يدرك لحظة أن فيه جوانب سلبية يراد منها تفخيخ قوة الاتحاد السوفياتي وتوريطه عن طريق إغراق اقتصاده المنهك بعشرات المشكلات المكلفة معنويا وماديا. نظر ستالين إلى المسألة من موقع المنتصر ووجد في العرض مجرد اعتراف ضمني بقوة الاتحاد السوفياتي ودوره المميز في هزيمة ألمانيا الهتلرية.

انتهى اجتماع يالطا في أسرع وقت واستمر ستالين في الحكم يرمم الاتحاد السوفياتي على طريقته ومزاجه وأحكم سيطرته العسكرية (حلف وارسو) والاقتصادية من خلال ربط اقتصاد شرق أوروبا بعلاقات مركزية وتابعة لموسكو (الكومينتيرن).

أسس ستالين القواعد المادية لنهضة سوفياتية متعددة العناصر ومتشعبة الاهتمامات وتقدمت في الخمسينات إلى الستينات على غرب أوروبا. إلا أن هذا التقدم قام في إطار حصار دولي وضمن دائرة جغرافية صغيرة الحجم قياسا لدولة عظمى. فالعملاق وجد نفسه في الستينات، يتورط في عشرات المشكلات الاجتماعية والنزاعات القومية والاثنية والمذهبية، وهو مراقب من جهات ثلاث: بولندا، ويوغوسلافيا، ورومانيا.

وحين تجاوزت أوروبا محنتها (الستينات وصاعدا) مستفيدة من مشروع «ماريشال» لإعادة إعمار غرب القارة وجدت نفسها أمام قوة عسكرية جبارة ومنهكة اقتصاديا. فمنذ تلك الأيام بدأت موسكو تنفق على أوروبا الشرقية لإنقاذ معسكرها من الانهيار بعد أن استفادت من تلك الدول في نهاية الحرب العالمية الثانية. واستمرت الأزمة إلى أن انهار حائط برلين (سور أوروبا الشرقية) وسقطت بأكملها المنظومة السوفياتية.

الآن في مطلع القرن الجاري نشهد ما يشبه يالطا معكوسة. روسيا تراجعت وانكمشت على نفسها وأوروبا تتمدد شرقا ضامة إلى سوقها واتحادها تلك الدول الأوروبية التي أنهكت الاتحاد السوفياتي.

والسؤال: كيف نقرأ التمدد الأوروبي شرقا؟ هل هو بداية توريط من طريق الإغراء بإغراق الاتحاد بالكثير من الدول والمشكلات؟ أم هو أول الطريق نحو يالطا جديدة تعيد توحيد ما قسمته الحرب العالمية الثانية؟ سؤال بحاجة إلى تفكير من نوع آخر

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 105 - الخميس 19 ديسمبر 2002م الموافق 14 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً