هذا هو الوطن العربي لا يتغير وسيبقى أبدا يبحث عن التخلف وعن مُلمّعين يلمّعون مواقع الخطأ في السلطة، وعن مدجنين مثقفين ألفوا ركوب الموجة فراحوا يطلقون رصاص الكلمات على الجميع. فمن قاده حظه الأدبي إلى أن يكتب مقالا كتبه، ومن لم يستطع استأجر له كاتبا يكتب باسمه لا ليضفي لمعانا أو بريقا على السلطة وإنما ليزيدها ضعفا ويقلل صدقيتها؛ لأنه لا يوجد شيء يسيء إلى أية سلطة أو نظام أقبح من عهر الكلمات إذا ما وصلت إلى درجة الإباحية والإسفاف فقد تمجها ـ لفظاعتها ـ حتى السلطة ذاتها، لما تراه من مزايدات هدفها الغنائم الشخصية.
إن هؤلاء المثقفين هم خصوم الديمقراطية، وهم الذين يفسدون تلك النقطة البيضاء في قلب السلطة، لأنهم يجمِّلون القبيح ويقبِّحون الجميل في سبيل أغراضهم الشخصية ويكون على حساب المصلحة العامة.
وللأسف الشديد فإن الأنظمة العربية أَلِفت مثل هذا الولاء المغشوش وراحت تبحث عن هتّيفة وزمّارين في بعض مواضعها بدلا من أن تبحث عن ناقدين ووطنيين، فكلما كبر طبل الطبّال ازداد كرشه وفرغ عقله وحصل على مزيد من المناصب، لأن المناصب الرسمية في مجتمعنا العربي أصبحت في بعض مواضعها هي الوحيدة التي لا تحتاج إلى مؤهلات علمية، وحتى المناصب النيابية وغيرها فهي لا تحتاج إلا إلى حفظ الأوزان الشعرية للفراهيدي أو أن يكون رئيسا في هيئة ولو كان طبلا منفوخا أو معروفا في قضايا الاختلاس أو تاجرا كبُرت تجارته على حساب الفقراء، وهكذا تعمل الأنظمة على تعزيز صدقيتها لدى شعبها بانتخاب «خيرة الرموز» وخيرة من سيترفعون على الناس وعلى المجتمع وهنالك ربح الفقراء والمواطنون... وحسن أولئك رفيقا «وكأنك يا زيد ما غزيت!».
وهذا عين ما حدث في مصر والذي نتمنى تجاوزه وعدم الوقوع فيه في تجربتنا البحرينية الوليدة.
يقول الكاتب الشهير أحمد رجب وهو يصور وضع البرلمان المصري في إحدى دوراته: «أصبحت شروط الترشح لمجلس الشعب أن يكون المترشح فوق الثلاثين ويجيد القراءة والكتابة ـ وأحيانا الشعر وكأننا في مسابقة شعرية على قناة المستقبل وليس في برلمان وهذه ضمن إخفاقات البرلمان العربي ـ وأن يكون ـ والكلام لايزال لأحمد رجب ـ حسن السيرة والسلوك لدى السلطة واشتهر بالموافقة»، بعدها يطلق كاتبنا التماسا مشحونا بالألم: «أتمنى أن يراعى في اختيار المرشح لمجلس الشعب ألا تكون له خبرة سابقة بالتصفيق والموافقة، وليست له هواية جمع إمضاءات الوزراء على الطلبات مقابل عمولات، وأن يستعمل الحصانة فيما شُرعت له ولا يتخذ منها رداء ليليا وفي يديه سلسلة مفاتيح».
وبسبب هذه المواصفات عُرف البرلمان المصري بنواب وطنيين وكذلك نواب سوء، فكان البعض يُطلِق عليهم ألقابا بالغة التجريح من (نواب الخدمات) و(نواب القروض)... إلخ، وكل هذه الألقاب تعكس حال الإحباط التي عاشها الشارع المصري في بعض الدورات البرلمانية التي مرَّ بها، وخصوصا بعد اكتشافه حقيقة تلك الشعارات الانتخابية البراقة والمطاطية التي استخدمت في فترة التسويق الانتخابي، ان الكثير منها كان مجرد مكياج انتخابي.
وكذلك وقع عين السيناريو في الأردن فأكثر الذين كانوا متعاطفين مع القضية الفلسطينية ورفعوا شعارات داعمة لها في الفترة الانتخابية أصبحوا أول الموقعين والموافقين على عقد اتفاق صلح وسلام بين الأردن وإسرائيل. وللاطلاع يمكن الرجوع إلى كتاب «الديمقراطية المقيدة: حالة الأردن» للدكتور علي محافظة.
إن ما أسوقه من أمثلة وتجارب عربية أريد بها الاستفادة حتى لا نقع في المآزق ذاتها وأحاول أن أكون دقيقا في نقل التجارب وعلى لسان القريبين من الحدث كي نعيش التجربة بسلبياتها وإيجابياتها غير منقوصة أو مجردة من سياقاتها التاريخية وبعض خصوصياتها، فهذه البرلمانات كانت تحمل في أحشائها وعلى ذراعها الكثير من الرموز العملاقة، التي رضعت السياسة وهي صغيرة كالمناضل الكبير ليث شبيلات الذي عُرف بالجرأة الوطنية والغيرة على الحقوق القومية ومصارحة السلطة بلا تملُّق أو تمسُّح بجبهتها أو ذراعها، وكذلك هو الحال في التجربة البرلمانية في الكويت التي عُرفت برواد وطلائع العمل الوطني والنضالي كالكاتب عبدالله النفيسي وأحمد السعدون وعبدالله النيباري وعدنان عبدالصمد ومحسن جمال والبراك وغيرهم الذين كانوا يهزون الأرض من تحت أرجل بعض الوزراء الفاسدين، فكانت ترتعد فرائص الوزراء بسماع صوت مثل هؤلاء النواب على الهاتف فضلا عن مشاهدتهم في استجواباتهم للوزراء.
هؤلاء النواب عُرفوا بالتاريخ النضالي الكبير، وما زلت أتذكر تلك الأشرطة الصوتية التي كانت تتسرب إلى البحرين في أوساط الثمانينات وهي أشرطة للمناضل أحمد الخطيب وهو يتحدث إلى الناس وأصوات الكلاب البوليسية تحاصر مكان المحاضرة، وكان صوت نباح الكلاب ينبعث من بين لسان الشريط المسجل. كنت أسمعه وأنا صغير في عمر الرابعة عشرة، فبقيت هذه الصور والكلمات عالقة في الذاكرة.
كما كان من النواب محسن جمال وعدنان عبدالصمد وبعض الرفاق فهم ممن وقفوا ضد ذلك التطبيع المربك بين السلطة العراقية والكويتية والذين كانوا يرون فيه مساسا بالسيادة الوطنية، وحكم على بعض هؤلاء بالإعدام كالأستاذ الحاج صالح وغيره. وبعد غزو العراق للكويت خرجت الكويت من غيبوبتها في شهر عسلها العراقي واكتشفت صحة ذلك النقد، أن من يحب السلطة ينتقدها لا أن يتملق لها للوصول إلى المناصب والمراكز ولو على حساب سمعتها وصدقيتها لدى المواطنين ومن يحبون الخير لها عند المجتمع وعند شعبها، فوصلت إلى قناعة أن كثيرا من المتزلفين من شعراء ومناصرين رجبيين زادوا السلطة نقاطا سوداء تحسب عليها وعلى صدقيتها واكتشفت خطأها في اعتمادها على مواطنين موسميين عشوائيين قدمتهم على المواطنين فأخفقوا عند الاختبار الصعب في غزو العراق لها فكان هؤلاء الموسميون يُدِّلون جيش صدام على المواقع الحساسة في الدولة ويُدِّلونهم على المقربين من السلطة فعاثوا في الكويت الحبيبة فسادا وقتلا وحرقا، فكانت السلطة محرجة أمام المجتمع الأصيل الذي دفعته وطنيته المخلصة والأصيلة إلى الدفاع عن السلطة الشرعية المتمثلة في آل الصباح فأخذوا يدافعون عن الأرض والوطن والتراب والأعراض وهم عُزّل إلا من سلاح حب الوطن والعائلة الكريمة، وهم يرون المواطنين الموسميين كيف يجلسون مع الذئب وكيف يبدِّلون ولاءهم كما يبدِّلون أحذيتهم، وكيف أنهم فرّوا بما حصدوه طيلة بقائهم على حساب المواطنين الأصليين من سنة وشيعة أو مستحقي الجنسية ممن توافرت فيهم شروط الاستحقاق وشرف الانتماء إلى أرض الكويت. كل هؤلاء راحوا ضحية غدر الموسميين الجدد الذين كانوا يحملون ولاءات مزدوجة إذ تواطأ هؤلاء الموسميون مع الأجنبي على حساب الأرض بعد أن عصروا البلاد اقتصاديا.
في ظل هذه المخاضات العسيرة والمتنوعة كلها تحمل ذاكرتي صورة النواب الأبطال، إذ رأيناهم كيف ترافعوا عن قضايا أمتهم فكانوا نوابا متميزين تاريخا وثقافة وعلما ونضالا. هذا ما كنا نتمنى توافره في تجربتنا المحلية ـ كحالة عامة ـ وليس في بعض من دون بعض ـ في جميع أعضاء البرلمان البحريني، أن يكونوا متميزين في كل ذلك. هذا طموحي لكوني شخصا منفتحا على التجارب، فاعذروا لي طموحي هذا وذاكرتي التي حوت نوابا عربا وخليجيين خدموا شعبهم، هزّوا الفساد المالي والإداري في بلدانهم، وحققوا الكثير من طموحات أمتهم.
قد أكون مزعجا بكلامي هذا ولكن أنا على يقين أن الأعضاء المحترمين سيغفرون لي جرأة وصفي هذا وعدم تحفظي على قول ما قرأته في عين كثير من مثقفينا وإن كنا لا نعدم بعض المتميزين في تجربتنا وإن كانوا قلة.
وعلى ذكر تلوِّن المثقفين وتبدل جلودهم، ففي الوقت الذي ينادون فيه بالحياة الديمقراطية ساعة اقتراب توزيع غنائمها يقفون في وجهها ساعة انقلاب السلطة عليها، وهذا عين ما حدث في الكويت عندما أقدمت الحكومة الكويتية على حل البرلمان الكويتي بعد انتكاسة الديمقراطية البحرينية التي تمثلت في حل البرلمان في أغسطس/ آب من العام 1975، يقول الدكتور عبدالله النفيسي في كتابه «الكويت الرأي الآخر» ص 120: «بدأ وعّاظ النظام ـ بعد حل مجلس الأمة الكويتي ـ ينتشرون بين الناس، يلبسون رداء الغيرة على الإسلام ويبرؤنه من (رجس) الديمقراطية، ويحاولون أن يُدخلوا في روع الناس أن المناخ الديمقراطي يؤدي ـ بالضرورة ـ إلى بروز اليسار (الملحد الكافر) وأن ذلك لا شك يشكل خطرا على مستقبل الدعوة والإسلام في البلد، إذن يستنتج ـ والكلام للنفيسي ـ وعّاظ السلاطين ـ أن قمع الديمقراطية هو في الحقيقة قمع لليسار ويرون أن مجلس الأمة لم يكن يكرّس إلا الخلافات والاستقطابات والتحزبات وهذا ليس من أخلاق الإسلام...».
هؤلاء يغيّرون ألوانهم في كل الظروف وحسب طلب الزمان وتراهم يستبدلون الموقف بموقف آخر، وخصوصا عندما تقع تفاحة السلطة الناضجة في أيديهم.
ختاما أقول: إن هناك كثيرا من المواقف والملفات عمِلت على ترسيخ هذه النظرة السوداوية التي أعيش بعضها ـ
ولن أقول كلها ـ أتمنى انقشاعها بمبادرات تصحيحية بدلا من ترسيخها بقوانين مثبطة، وبانتقاء شخصيات لمناصب تزيد الشارع إحباطا على إحباطاته، وأن تعالج جميع الملفات بعيدا عن وضع الرموش الجميلة والعدسات الزرقاء الصناعية على وجه هذه الملفات؛ لأن المكياج الكثير هو مهنة الممثلات ومذيعات التلفزيون وليس مهنة المثقفين؛ وأن تحل من دون أي تحريف أو رتوش أو مونتاج وخصوصا مع اقتناع الجميع بأن ليس هناك ما يخسره الفقراء بعد تحوُّل جزء كبير من البرلمان في يد رجال الأعمال اللهم إلا من رحِم ربُّك.
وبعد ذلك نقول كيف سيكون المستقبل لكل من:
1- ملف إدارة الأوقاف التجارية ـ عفوا ـ أقصد الجعفرية.
2- ملف القضاء الجعفري في مزاجية بعض الأحكام لدى بعض (القضاة).
3- مصير 80 خريجا بعد إلغاء شهاداتهم الجامعية (بكالوريوس) من قبل الوكيل حسين بدر السادة بعد أن دفعتهم الوزارة إلى معهد تنكرت له لاحقا
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 104 - الأربعاء 18 ديسمبر 2002م الموافق 13 شوال 1423هـ