يحملق في وجوه كأنها أكوام من غبار، فيما روحه تحلق باتجاه أمكنة لم تصلها ذاكرته بعد، يترك المكان في عجلة من أمره ممنيا نفسه برؤية الوجوه ذاتها وقد تحولت إلى أكوام من دهشة ومعنى.
الذين عرفوا الشاعر الفلسطيني يوسف أبولوز لابد أنهم يحتفظون له بصور ومواقف خلفت خضة ودهشة وإرباكا من الصعب أن ينمحي أو يزول مع مرور الوقت، فكما هو شاعر استثنائي هو كذلك إنسان استثنائي بفقره وعوزه وحبه بل وحتى مزاجيته. والمزاجية هنا لا تمتد لتشمل رؤيته ومواقفه من البشر الذين يصافحهم أو يعانقهم، وكما أسرَّ لي (إن ذلك عنوانا وميثاقا غليظا... حين أصافح أحدهم أو أعانقه فذلك يعني ذهابي معه إلى مدى بعيد في الموقف والشرط الإنساني). لذا تراه لا يتردد في الامتناع عن مصافحة أحدهم إذا ما اتضح له انه دخيل في المعنى على هذا الكائن وإن شابهه في المبنى.
أعود لأقول... إن المزاجية لا تمتد لتشمل رؤيته ومواقفه من البشر، بل تكاد تنحصر في تبرمه الطارئ أحيانا والدائم أحيانا أخرى من أمكنة تعتقد انه توحد بها لكثرة تردده عليها، لينقلب عليها لاعنا ساخطا، بعد أن يقسم بأغلظ الأيمان الا يعود إليها (ذلك يعني أنه سيعود إليها).
بين الأردن والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومرة أخرى إلى الأردن ثم الإمارات، التقى بشرا ووجوها وحالات وأمكنة مثلت له رافدا ومخزونا ثرا استدعاه في عدد من نصوصه ومقالاته، وظل وطنه (فلسطين) هو المحرك لمجمل نصوصه، وإن لامسه ولوح له من بعيد... من أقاصي النص، إلا انه يظل هناك بكل فجائعه وأمله وانكساره وكذلك شموخه.
رائعتاه... (ضجر الذئب) و(مجرَّة القتلى) من الأعمال التي أسهمت إسهاما كبيرا في تشكل وعيي الشعري ورفده بعدد لا حصر له من القيم النصية الإبداعية كما أزعم، وهي قيم تأتت من تجربة ثرية ورصينة تمتع بها أبولوز، واستطاع عدد من الأصوات الشعرية الشابة في الإمارات منتصف الثمانينات أن ينهل منها ويوظفها توظيفا واعيا في عدد من نصوصه.
يظل (صعلوكا) بامتياز عبر رفضه الواعي والمسئول لكل أشكال الهيمنة والاحتواء، وعبر اتخاذه نهجا غير مألوف في تعاطيه مع البشر، وفي نظره للعملية الإبداعية، وفي تقديره المربك والمختلف لقضايا أخلاقية مرتبطة بتلك العملية
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 104 - الأربعاء 18 ديسمبر 2002م الموافق 13 شوال 1423هـ