العدد 104 - الأربعاء 18 ديسمبر 2002م الموافق 13 شوال 1423هـ

الآن: نم يا صالح بهدوء فالجميع نائمون!!

المنامة - جبير المليحان 

تحديث: 12 مايو 2017

صالح العزاز؛ أحد الكائنات الشفافة في هذا العالم.

غاب صالح، وكنت بجانب البحر: البحر أسود الآن... لا ماء فيه رغم أمواجه الصاخبة، ليس غير غموضه البعيد... صالح؛ إذ كنا طريين كالأحلام التي نرى فيها حدائق المستقبل... في 1979، وأنا أغادر صحيفة (اليوم) بالدمام، تجيء يا صالح، وتجلس في المكان نفسه... و تأخذ العمل نفسه (إدارة التحرير) ثم لا تلبث أن تؤخذ كما تؤخذ العنادل إلى الأقفاص... تفر عند خروجك من القفص إلى الرياض حيث الصحراء والأسمنت والأشياء المتشابكة كالغابة... تهوم كثيرا مع الأيام... أسمعك كناي بعيد أحيانا، أو صوت حداء... وأرى وميض سعف إبداعك كوهج نيران حقول البترول في الربع الخالي... تمر السنوات، والسنوات، و نحن نتحاور بسماع الأخبار هنا و هناك... صالح أذكر إذ تهاتفنا، ثم أرسلت لي قصاصتك الصغيرة، تقول (مازلت أقرأ هنري ميللر)، كانت ورقة بيضاء وحروفا صغيرة رسمتها بقلم الرصاص... كنا نتسابق على رسم أحلام حاراتنا ونبي الانسان العاشق لطين وطنه وناسه و غده... غدر بك الزمن أيها الشفيف... وابتعدت، طار بك المرض إلى حيث تقول: «أنا في الغرفة الصغيرة المخصصة للمريض السعودي، في الدور السادس عشر من المبنى الزجاجي الطويل، حيث اقضي ساعات النهار من كل يوم بأمر الطبيب وكاثي، بدل أن أحمل «عدساتي» مثل عصفور في الحقول»؛ يبست كل تلك الحقول: حقول المزارع و القرى، حقول الأحلام، ولم يبق لنا، وأنت الراحل غير حقول البكاء و الذكرى... ها أنت يا صالح تقاتل: «أهلا بنقطة ضعفي الرائعة أمام أية فكرة أو خاطرة تقول بتحرير الإنسان من قبضة الأوهام الفردية أو الجماعية، من سطوة العلاقات البشرية الفوقية، تلك التي تجعل الإنسان يقع في قبضة عقدة الشعور بالنقص من دون أن يشعر بذلك، بسبب بريق الوعود والأوهام في حفلة عابرة لمن هم «عابرون في كلام عابر». لقد جربتها وتذوقت طعم مرارتها، هناك أو هنا، حيث يخسر الفرد حضوره الإنساني ويدخل في القطيع... «آه يا صالح ، فقد كنا قطيعا نساق إلى المراعي التي يرغبونها... ثم نسلح في معارك الخبز والاحباطات اليومية، والأحلام المنكسرة كما يرغبون أيضا... لم نعد كذلك. تفرقنا وصار كل منا ذاك الثور الأبيض. فرقتنا ذئابنا المحلية، وتبددنا كغيوم المساء السريعة في مجاهل الصحراء... كنت تبحث عن حقيقة ما يا صالح... كنت تقول أنك مولع «بتصوير الأبواب التي كنت أراها مفاتيح الأسرار. لقد تشابهت على الأمة مفاتيحها، بل حتى أبوابها، وقد يغفر لنا التاريخ ذنوبنا الصغيرة، عندما تختلط علينا مفاتيح صغيرة ومتشابهة في زمن أصبح للنوافذ أقفالها. لكن التاريخ لا يغفر الذنوب والخطايا الكبيرة، أشك أن التاريخ سوف يغفر لأمة تسمح لنفسها بأن تتشابه عليها الأبواب، فتصبح المفاتيح لا قيمة لها. نحن الآن نطرق أبوابا لا تقود إلى المستقبل، نحن أمة تركض بالاتجاه الخطأ... تريد أن تبدأ من النهاية بالاتجاه المعاكس.

يحتشد التاريخ وكأن المسافة طريق الحرير الجديد. «ثم ماذا أيها الراحل»؟

ها أنت تنظر إليهم، من الدور السادس عشر، و تصرخ في وجوه أمة كاملة تنام عز اليقظة: «كأنني أسمع أم آخر ملوك بلاد الأندلس عبد الله الصغير... إبك مثل النساء! نحن نخرج، بل نطّرد، من أحلامنا وآمالنا، وحريتنا وكرامتنا، كأنما يقذف بنا خارج القطار، وفي منطقة لا ماء فيها ولا شجر! نحن في مأزق حقيقي ليس مع «الآن» بل مع ما هو أخطر، نحن في مأزق مع المستقبل». هكذا تعلي صوتك بهذه الشهادة في نهاية القرن... أمام أمتك ولون وجهها المضمحل في مرآة المستقبل، والمتصاغر أمام نمو و تجدد الآمم الأخرى التي تعمل ليل نهار: «إنهم يعملون ليل نهار، وبإخلاص، من أجل تحقيق تطلعاتهم ووجودهم وبناء حضارتهم، ويتصرفون حيال المستقبل وكأن الحرية هي عقيدتهم الوحيدة، وكرامة المواطن هي دستورهم، مثلما كنا نفعل قبل ألف عام وأكثر. إن حضارة الغرب الرائعة تأخذ وجودها على محمل الجد فتبني المدارس والجامعات والمستشفيات بما يليق بكرامة وحرية وطموحات الإنسان، فيصبح كل فرد أمة لوحده. مثلما لم نفعل أبدا منذ ألف عام حتى الآن».

نعم مثلما لم نفعل منذ ألف عام؟!! نعم مثلما لم نفعل، ولن نفعل و نحن خارج قبضة تاريخ المستقبل.

صالح: قبل رحيلك كنت تدعونا بسخرية مرة إلى «قليل من الهدوء، فالأمة متعبة برجالها من وعثاء السفر، انها تريد أن تغفو قليلا أو هي تريد أن تنام. لعل حلما قديما يعبر ذاكرتها، لعل عابر سبيل غريبا اسمه صلاح يمر بها فيوقظها، أو ينفض عن جفنها الغبار».

أرجوكم، توقفوا عن الصراخ... أمتكم تريد أن تنام!

الآن: نم أنت الآن... نم بهدوء في جنة الخلد إن شاء الله... نم بعد كل هذا التعب الطويل، والسفر المضني مع سجن الواقع، والتهام المرض لبسمة حياتك... نم مطمئن البال... ولا تفكر في أمتك النائمة في مسار الحضارة... فقد قضي الأمر... وصرختك أخذتها الرياح إلى أودية قليل سامعوها... نم بهدوء و أتركنا مع ما بقي من أحلامك فقد: «دقت الساعة المتعبة»!

عندما تهبطين على ساحة القوم؛ لا تبدئ بالسلام.

فهم الآن يقتسمون صغارك فوق صحاف الطعام بعد أن أشعلوا النار في العش... والقش ... والسنبلة.!

وغدا يذبحونك ... بحثا عن الكنز في الحوصلة!

وغدا تغتدي مدن الألف عام!

مدنا... للخيام !

مدنا ترتقي درج المقصلة





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً