العدد 104 - الأربعاء 18 ديسمبر 2002م الموافق 13 شوال 1423هـ

صالح العزاز: عندما تنضح الصورة شعرا

القطيف - حسن المصطفى 

تحديث: 12 مايو 2017

كما يمتطي الغيم أزرق السماء ورحابة صدرها، امتطى المصور السعودي صالح العزاز (أزرقه المستحيل) وبدأ رحلة جديدة، رحلة يصير فيها (المستحيل) (ممكنا)، وتغدوا فيها (الزرقة) أكثر بهاء وصفاء، ويكون لصالح نصيبه من الزرقة التي طالما كانت له الحلم والمشتهى.

هو الآن في فضاء (المطلق). ها أنت الآن يا صالح تحررت من أسر عالم المادة، وغدت روحك طليقة حرة.

إن عالم الراحل صالح العزاز، مليء بأبجدية الحلم ونورانيته، وهو بما تركه من منجز إبداعي فوتوغرافي استطاع أن يتبوأ مكانة مرموقة بين الفوتوغرافيين العرب، وما حصوله على الجائزة الثانية في مسابقة الاتحاد الدولي للمصورين في الصين العام 1997 إلا دليل على مقدرته وحرفيته.

العزاز لم يكن بالفوتوغرافي المحترف الصارم الذي يتبع قواعد كلاسيكية أو فنية محددة، تجعله يتعامل مع الصورة واللقطة بصرامة ومهنية، بل كان على رغم مهارته الفائقة يتعامل مع العدسة بكل عفوية وسلاسة، تاركا لها أن تمارس حريتها بذاتها، لذا كانت لقطاته عفوية وغير مصطنعة، ما يجعل المتلقي يقرأها ويتلقاها بمتعة بصرية وروحية، قبل أن يقرأها ويحللها ذهنيا. لذا نرى الصورة لديه مفعمة بالحركة والحياة، صورة متحركة، غير راكنة لراهنيتها وزمانيتها، بل لها القدرة على الامتداد، وهذا ما منحها شاعرية خاصة، جعلت من العزاز «شاعر الصورة» كما عبر عنه الشاعر اللبناني عبده وازن. فالعزاز وعبر حساسية مفرطة، استطاع أن يقتنص بعدسته لقطات شاعرية، ليس لكونها مشاهد عاطفية أو غرامية أو رومانسية كما يخيل للبعض عندما توصف الصورة بـ«الشاعرية»، بل لكونها لقطات عبرت عن حس إنساني شفاف، أضفى على الموجودات كثيرا من الجمال. والعزاز لم يكن ليصل إلى ذلك لولا أن صنع لنفسه علاقة تعالقية بينه وبين اللقطة محل التصوير، لأنه جعلها تحس به كما يحس بها، واستشعر ما تحمله من حياة، على رغم كونها في طبيعته المادية جامدة أو ساكنة، كصورة «كرسي»، أو«منزل»، أو«فانوس» مثلا.

في تجربة العزاز عدة ثيمات رئيسة، فنراه يشتغل على موضوعات: الصحراء، الجمال، البيوت الطينية، السماء وزرقتها، الأطفال، الظلال... . هذه الثيمات شكلت أساسا لتجربته، بل نراه مشغولا بها. وهو على رغم تركيزه عليها أكثر من سواها، إلا أنه لم يقع في فخ التكرار، واجترار التجربة، بل راح يجعل من كل صورة لقطة مستقلة بحد ذاتها، لا تشبه سابقتها، ولا تتطابق معها، على رغم وجود حبل سري خفي يجمع بين هذه اللقطات.

الصحراء بالنسبة للعزاز كانت تمثل غواية جميلة، هذه الغواية تمثلت في السعة والفضاء الرحب، وفي صفرة الرمل ونقائه. هذه السعة تتقاطع من الصفرة، وكلاهما يحيلان لتوق شديد يختمر بداخله لعالم بسعة الصحراء وببريق صفرتها، هذا البريق الصادق والنقي، نقاء حبات الرمل، التي تتجاور فيما بينها، من دون أن تعتدي واحدة منها على الأخرى. الصحراء لم تكن تمثل له قيمة (رجعية) أو نوعا من التمسك السلبي بـ (الموروث البدوي) بل كان الحنين لها حنين من أكلت روحه المدنية الحديثة، وراح يبحث عن فسحة أمل في هذا (الفضاء الأصفر)، وهي عودة للبدائي والأولي بمفاهيم (ما بعد الحداثي) بعد فشل قيم المدنية الحديثة، وسقوط مقولات (الحداثة).

الصحراء وصفرة رمالها، تتقاطع في نسيجها مع الأزرق الملون للسماء. العلاقة بين السماء والأرض، وبين الصفرة والزرقة. كلا الاثنين متواشجان مع بعضهما، فالسماء برحابتها، تتطابق مع الصحراء بامتدادها، والزرقة هي توأم الصفرة، توأمان يحيلان للمخيال الرحب، للحرية، للتحليق بعيدا عن قيود السياسة، والمجتمع، والعرف، والتعصب الأعمى، والدمار الكوني.

الطفولة، أتت لتكمل هذه المعادلة، فهي مرحلة «البياض الناصع»، ومرحلة اللهو البريء، والأحلام العذبة، إذ الأطفال كائنات من حلم لم تتلوث ثيابهم وأكفهم بأخطاء الكبار ودجلهم ورغباتهم وأنانيتهم المفرطة.

هذه الرغبة لعالم أوسع، وهذا المقت لعالم الضيق الحالي، عبر عنه العزاز بصوره للبيوت الطينية والبيوت الحديثة، ففي معرضه الأخير «بلا حدود» (الرياض 2001)، حاول أن يعبر عن تلك الحال من التغير، أو لنقل الزحام الذي سببه هذا العمران الحديث لتلك البيوت الطينية القديمة، وعلاقة الحديث بالقديم، الطين بالإسمنت المسلح، الرائحة العبقة، بالصمت العديم الطعم والرائحة، من دون أن تتحول هذه الأعمال لهجاء مباشر للمدنية الحديثة، بقدر ما ترك المتلقي يأخذ فسحته ويكون للبصر متعته وللتفكير حيزا من السؤال.

هذا الزخم من العمل الفوتوغرافي توجه العزاز بـ «المستحيل الأزرق»، وهو الكتاب الذي أصدره بالاشتراك مع الشاعر البحريني قاسم حداد. فكانت الصورة للعزاز، والنص الشعري المكتوب لقاسم. في «المستحيل الأزرق»، كان العزاز شاعرا من دون أن يكتب سطرا واحدا من الشعر، فصوره ولقطاته كانت مفعمة بالحياة والشاعرية، إذ نجدها تتوازى مع نص قاسم ذاته، بل نراها تجبر نص قاسم على أن يتعامل معها معاملة الند للند، وهو في هذه التجربة، أفصح عن شاعرية حقيقية لا يمكن التقليل منها، وتمثل مع نص قاسم امتدادا شعريا لذاتٍ بشرية، استطاعت برؤيتها وشفافية عدستها أن تكتب الشعر بالكاميرا.

على رغم مما يمتلك المرض من قوة، ومن طاقة تجعل كثيرا من الهمم تنحني له، إلا أن العزاز لم يستسلم له، بل اعتبره اكتشافا جديدا، وعالم رحبا، راح يحاول سبر أغواره، والتقاط تفاصيله بعدسة روحه، وقد تحدث عن هذه التجربة بقوله: « قصة المرض، هذه مجرد معركة صغيرة، تحدث على هامش الحياة. أريد أن أخرج منها أنساها. أريد أن أحيلها على الأرشيف والذكريات. الحب أكبر من كل الألم، وأجمل ما في الحياة. هذه تلويحة تخرج من القلب، تعبر القارات والمحيطات كأنها طائر اللقلق يبحث عن عشه القديم... يتضاءل الخوف ويكبر الأمل، بل إنه يذوب ويختفي أمام عاصفة حب من هذا الطراز. أكاد انهض من مكاني أكاد أركض أضحك أغني في هذه اللحظة النادرة. شعور رائع وجميل أن تقترب من حافة الموت وكأنك ذاهب إلى موعد تحبه. متفائل جدا، ولا أريد أن أموت. كل هذا الحب. كل هذه الشموس. نريد أن نعيش ونطرد الكابوس. في مكان لا يسمع فيه الأذان.. تختلف الأوهام والأحلام. في وحشة الليل والذاكرة. يصبح للرشاقة مثلا معنى وصورة اللحد الصغير وحجم الضوء والهواء فيه. عندما تصحو مما يتاح لك من فرصة، تذهب يدك إلى جبينك تتحسس هذا الغطاء. ما إذا كان ترابا أم جدارا للقبر الصغير. كما تشرق كل يوم على تلال النفود يشرق الأمل في الحب ويتلاشى الألم مثلما يتنفس الصبح في وجه الليل القديم «صحيفة الجزيرة السعودية».

هكذا كان العزاز ينظر للموت بعزة وهمة، بحب وتأمل، مذكرا بتجربة الشاعر العربي محمود درويش في جداريته، عندما كان يذهب في الموت ويجيء، ومذكرا بالراحل سعد الله ونوس في رائعته «رحلة في مجاهل موت عابر». وعلى رغم تخطف الموت للعزاز جسدا، إلا أن ما قدمه من منجز إبداعي، وتركه من ذاكرة روحية ستبقى أعصى من أن تنسى، وهل للقبر مقدرة على مسخ الذاكرة!، مستذكرين قول الشاعر علي الفرج: « القبر عجوز، لا يحسن أن يتوكأ، لا يحسن أن يخفي شيئا أعلى من قامته المكسورة»





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً