يتساءل الكثيرون عن أنه إذا كانت الولايات المتحدة تريد شن حرب على العراق لإسقاط نظامه، فما الداعي لكل هذا التردد حتى الآن بما في ذلك اللجوء إلى الأمم المتحدة وإرسال فريق المفتشين إلى بغداد؟ إن الولايات المتحدة تملك التصميم والعزيمة كما يبدو على القيام بهذا العمل، مسنودة بأضخم قوة عسكرية في التاريخ، واقتصاد هو الأكبر في العالم، وتكنولوجيا هي الأكثر تطورا. وإذا أضيفت إلى ذلك كله تصريحات أميركية ما انفكت تهدد وتتوعد باستخدام القوة وإنزال العقاب الصارم، فما الذي يمنع الإدارة من شن الحرب؟
الإجابة عن ذلك تكمن في كلمة واحدة وهي: المبرر. وببساطة شديدة لا يوجد حتى الآن مبرر قوي ومباشر لخوض حرب على العراق، تستطيع أن تقدمه إدارة الرئيس جورج بوش إلى الشعب الأميركي والعالم.
لا يوجد مبرر لإرسال جنود كي يموتوا في ساحة الحرب، ولا يوجد مبرر لانفاق المبالغ الهائلة المنتظر أن تكلفها هذه الحرب.
فالحديث عن «أسلحة الدمار الشامل» على رغم وجاهته وقوته بالنسبة إلى الأمن الأميركي ولاسيما في ظل التهديدات الإرهابية التي تتعرض لها، فإنه لا يبرر شن الحرب. والحديث عن انتهاكات حقوق الإنسان والدكتاتورية والاستبداد والقمع الداخلي له تأثيره الإنساني الطاغي على الجميع، لكنه هو الآخر لا يمكن أن يكون سببا لأي حرب. وحتى النفط العربي الذي يكثر الحديث عن أنه هدف اميركا من وراء تغيير النظام، يظل على رغم صحته، غير قادر على إقناع أي أميركي بالتضحية بحياته.
لا يقلل ذلك من أهمية كون العوامل المذكورة ربما تكون أهدافا للسياسة الأميركية وقد تكون هي فعلا كذلك، لكنها لا تصلح لتقديمها سببا تتخذه الولايات المتحدة لقتال دولة أخرى.
طبعا هناك من يقول أن الولايات المتحدة لا تحتاج إلى مبرر لشن الحرب في أي مكان من العالم، طالما أن ذلك يخدم مصلحتها في النهاية. وهذا القول يحتمل قدرا من الصحة، لكن ليس في حال الأزمة العراقية التي هي أزمة إقليمية ذات طابع عالمي.
ولذلك فالأهم هو ما إذا كانت واشنطن ستعثر في النهاية على المبرر لشن الحرب أم لا؟
الجواب في جانب منه قد يكون لدى القيادة العراقية، التي تستطيع من دون تبسيط وضعها الحالي، تفويت فرصة الحرب بالتعاون الكامل مع الأمم المتحدة، ليس بنية إنجاح عمليات التفتيش والتخلص من الأسلحة فحسب، وإنما من خلال إبراز الرغبة والقدرة على التغيير الداخلي.
أما الجانب الآخر من الجواب فهو في النتيجة التي ستؤول إليها التطورات السياسية الحالية. فإذا نجحت واشنطن في نقل الأزمة من مستوى تطبيق القرارات الدولية الخاصة بحرب الخليج الثانية، إلى إجراء محاكمة سياسية وأخلاقية للنظام العراقي ومدى التزامه تطبيق تلك القرارات، فإن الحرب قد تغدو خيارا لا مفر منه.
ولهذا السبب فإن الخطاب الأميركي المتشدد يركز الآن في معظمه على هذه المحاكمة وليس على رغبة بغداد أو قدرتها على تنفيذ ما تطلبه المنظمة الدولية منها.
انه يرمي إلى زرع الشكوك وعدم صدقية الحكومة العراقية من خلال استعراض سجلها في التعامل مع الداخل كما مع الخارج، ليصل في النهاية إلى نتيجة مفادها عدم جدوى التعامل مع هذه الحكومة، التي يجب أن تتغير.
أي ان المبرر الذي تبحث عنه واشنطن قد لا يكون على نمط غزو الكويت أو أزمة القصور الرئاسية في العام 1998، وإنما ببساطة إيصال الأمور إلى وضعية يستحيل معها الاستمرار في الخيار السياسي الآخذ أصلا في التآكل، ومن ثم تصبح الحرب أو التغيير الجذري الحل الوحيد للخروج من الأزمة.
والسؤال هو كم من الوقت سيلزم للوصول إلى هذه الغاية وما إذا كان باستطاعة بغداد أن تجهض مثل هذا السيناريو؟. من المؤسف القول إن خيارات العراق تضيق يوما بعد آخر، ويبدو واضحا أن الوقت الذي أعطته الولايات المتحدة للحل السلمي، يحمل طابعا مزدوجا. فبموازاته تسير الاستعدادات للحرب وتحضير ساحة المعركة عسكريا وسياسيا، وبصورة يبدو معها أن الفارق بين إعلان فشل التسوية وإعلان بدء الحرب لا يزيد على الصفر. وهذا يعني أن العراق لا يملك أي هامش للمناورة.
ومع ذلك فإن بغداد تظل قادرة، على الأقل ضمن الفسحة المتوافرة من الوقت، على إجهاض خيار الحرب وتجنب الدمار، وقد يكون نموذج أوروبا الشرقية غداة انهيار الاتحاد السوفياتي السابق ملهما في هذا المجال. فهناك حدثت ثورات بيضاء، تغيرت الأنظمة بموجبها، لكن القوى السياسية والاجتماعية السابقة استمرت في الوجود (وبعضها وصل إلى الحكم مجددا بعد تطوير نفسه) من دون إراقة الدماء. أما ما ينتظر العراق في حال الحرب (التي لن تعدم واشنطن سببا لبدئها) فلن يكون أقل من حرب تصفيات وانتقام داخلي عنيف سيزيل قوى بأكملها من على الخريطة الداخلية. فهل ستتخذ الحكومة العراقية من تجربة أنظمة أوروبا الشرقية نموذجا لها، أم تستسلم لمصير أفغانستان؟
العدد 103 - الثلثاء 17 ديسمبر 2002م الموافق 12 شوال 1423هـ