تنفس العالم الصعداء عندما لجأ الرئيس جورج بوش إلى مجلس الأمن لاستصدار القرار 1441. شعرت الدول الكبرى بأنها ليست مهمشة، لأنها شاركت في صنع القرار للحفاظ على السلم العالمي. كما شعرت الدول الأخرى بأنه لاتزال لها قيمة بين الجبابرة، حتى ولو مارست أميركا عليها ضغوطا هائلة. في المقابل استعادت الأمم المتحدة هيبتها، وخصوصا أن القرار كان قد صدر من على منبرها.
هل يعتبر هذا الحدث منعطفا مهما في السياسة الأميركية؟
عندما رشح الرئيس بوش نفسه للرئاسة، كان محور برنامجه السياسي يقوم على الواقعية والانعزال في الوقت نفسه. الواقعية في التعامل مع مشكلات العالم بطريقة تخدم المصالح الأميركية فقط. وفيها عدا ذلك الابتعاد والانعزال عن الأمور الثانوية، حتى ولو كانت تتعلق بالحلفاء الأساسيين. أراد بوش خلال حملته الانتخابية عدم المساهمة في بناء الدول الساقطة (Failed Sates). كما أراد استجماع قواته العسكرية المنتشرة في العالم، ضمن القوات التي تقوم بمهمة حفظ السلام (Peacekeeping) في مناطق متعددة من العالم في مقدمتها البلقان. أراد تهميش الأمم المتحدة، واستخف بالناتو لأن الزمن تخطاه. في ظل هذه المواقف والاستراتيجيات الأميركية، أطلق على الرئيس بوش لقب «الرئيس الكاوبوي الذي يحكم دولة عظمى مارقة» (Rogue Superpower).
أراد بوش تحرير أميركا من التقييدات التي كانت تفرضها المعاهدات الدولية عليها. فهو كان يعارض مبدأ التساوي في الأصوات بين الجبابرة والصغار في المنظمة الدولية. فقد كان هذا الأمر يضعه على المستوى نفسه مع أصغر دول العالم. إذ كان باستطاعة أية دولة، ومهما كان حجمها أن تطلب محاكمة الدولة الأعظم في تاريخ الإنسانية. لذلك هو رفض معاهدة كيوتو. ورفض معاهدة التفتيش على الأسلحة البيولوجية. كذلك أراد الانسحاب من معاهدة الـ «اي بي إم» (ABM)، وانسحب بالفعل منها فاتحا للبنتاغون باب التجارب، لاختبار إمكان استكمال مشروع الدرع الصاروخي (NMD). عارض قيام المحكمة الدولية لمحاكمة جرائم الحرب، لأنه خاف من أن تلاحق الدول الصغرى القيادات الأميركية، السياسية منها والعسكرية. أراد الرئيس بوش في بداية عهده التركيز على الدول المجاورة لأميركا. فأراد العمل وبجدية على حل مشكلة العمال المكسيكيين غير الشرعيين والموجودين داخل الولايات المتحدة. أراد الانسحاب من المعضلة العربية ـ الإسرائيلية، تاركا إيجاد الحل للمتصارعين، على أن تكون أميركا عاملا مساهما فقط، لكن عن بُعد. فهي سوف لن تفرض الحلول، لكنها ستكون في صدارة من يدعم ما اتفق عليه الفرقاء. وقد اعتقد الكثير من المحللين والكتاب الاستراتيجيين آنذاك، أن موقف الرئيس بوش هذا، يشكل قمة السذاجة السياسية من دولة عظمى، مفروض بها أن تكون العامل الأساسي لتأمين استقرار النظام العالمي، لمرحلة ما بعد الحرب الباردة.
أتت ضربة 11 سبتمبر/ أيلول لتغير كل ما ذكر أعلاه. من جهة أولى، وبدل الانعزال عن مشكلات العالم، راحت أميركا تتورط أكثر في النقاط الساخنة. ومن جهة ثانية، راح الخطاب الأميركي السياسي، والسلوك العسكري الاستراتيجي يثبتان التفرد الأميركي من ضمن النظام العالمي الجديد. فقسّم الرئيس بوش العالم ما بين خير وشر. وطلب من الدول، كل الدول، تحديد موقفها من الحرب الأميركية على الإرهاب. فمن ليس معه، فهو حتما ضده. نتج عن ذلك ما يُسمى «بعقيدة بوش الابن».
هبّ العالم للوقوف إلى جانب النسر الجريح. وأعلن الناتو وقوفه إلى جانب أميركا تنفيذا للبند الخامس من نظامه، والذي يقول: «الواحد للكل، والكل للواحد». كان الرئيس الروسي بوتين أول من اتصل بالرئيس بوش لطمأنته فيما خص الموقف الروسي، وأعلن كذلك وقوفه إلى جانبه. بعد هذا الاتصال، دبّ الغرام في قلب الرئيس بوش باتجاه بوتين. وتأكد هذا الغرام، عندما نظر بوش في عيني بوتين خلال قمة سلوفينيا ليقول بعدها إنه يمكن الوثوق بهذا الرجل.
إذا أعلنت أميركا الحرب على الإرهاب، وراحت إلى أفغانستان لخوض أولى هذه الحروب، انتصرت أميركا، زال نظام طالبان، ولم تتأكد أميركا من مقتل عدوها اللدود بن لادن.
حتى هذه المرحلة، كان العالم لايزال يقف إلى جانب أميركا لأنه رأى هول ما حدث في 11 سبتمبر. واعتبر هذا العالم، أنه يحق لأميركا أن ترد على الاعتداء عليها من ضمن مفهوم الدفاع عن النفس، الذي تجيزه شرعة الأمم المتحدة.
لكن الذي تغير بعد الانتهاء، أو قبيل الانتهاء من الحرب على «طالبان» هو أن أميركا راحت بعدها توسع بيكار الأعداء. فوسمت ثلاث دول بأنها تشكل مجتمعة «محور الشر». كذلك الأمر، راحت أميركا تضغط على أوروبا، وعلى باقي الدول العظمى لتقف إلى جانبها في هذه الحرب الطويلة التي لا يبدو أنها ستنتهي قريبا. بعد محور الشر، أطلقت أميركا أيضا ملحقا لهذا المحور. تمثل هذا المحور بالدول التي تسعى إلى الحصول على أسلحة الدمار الشامل. ضم هذا الملحق كلا من: كوبا وسورية وليبيا.
لم تكتفِ أميركا بهذا الأمر، لا بل راحت تحاول التركيز على العراق وعلى ضرورة تغيير النظام، سلما إذا أمكن وبالقوة إذا استلزم الأمر. لكن الأكيد في هذا الموضوع، هو أن أميركا صممت واتخذت قرارها فيما خص العراق. وهي سوف لن تقبل بأقل من تغيير النظام العراقي، حتى ولو استدعى الأمر معاداة العالم، ضمنا الحلفاء.
لقيت الولايات المتحدة معارضة شديدة من العالم الذي رفض ربط العراق بالحرب على الإرهاب. وفعلا، كان لكل معترض أهدافه الخاصة. فالسيطرة على العراق قد تعني تراجع التأثير الأوروبي في منطقة الشرق الأوسط، التي تعتبر المجال الحيوي للأوروبيين. رفضت الصين الحرب على العراق، لأنها وبحسب تاريخها، تفضل التعددية لإدارة شئون العالم. أما روسيا، فقد مانعت لأن لديها مصالح نفطية في العراق الذي يُدين لها أيضا بمليارات الدولارات. وهنا لابد لنا من أن نتساءل عن كيفية قراءة الفرقاء المعنيين لآثار 11 سبتمبر. هل التبدل تكتيكي أم استراتيجي؟ على الصعيد التكتيكي، راحت الدول تهتم أكثر بالأمور الأمنية الداخلية. أما على الصعيد الاستراتيجي، فالعالم لايزال يعمل من ضمن الوحدة السياسية التقليدية والمتمثلة بالأمة ـ الدولة. وقد يقال في هذا المجال إن 11 سبتمبر كان فقط إنذارا للعالم الغربي وعلى رأسه أميركا. وهي، أي ضربة 11 سبتمبر، جعلت أميركا تتنبه للمخاطر غير التقليدية، من أعداء غير تقليديين. وفعلا هذا ما تعتقده أوروبا، ومن هنا معارضتها للاستراتيجية الأميركية. ماذا حدث بعد هذه الممانعة للسياسة الأميركية؟ يقول المحللون إن أميركا وصلت حاليا وبعد عام تقريبا على مرور الاعتداء عليها إلى نقطة الذروة. فماذا عنها؟ يحدد المفكر البروسي كلاوزفيتز نقطة الذروة بما معناه وعلى الشكل الآتي: «إنها النقطة التي يجب ألا يتخطاها القائد العسكري خلال عملياته العسكرية. وتخطيها، قد يؤدي إلى عواقب وخيمة، قد تقلب النصر إلى هزيمة. إنها الامتداد الأقصى للقوى والوسائل. إن تحديد نقطة الذروة عملية دقيقة تتطلب نوعا مميزا من القادة». في عالمنا العربي، نقطة الذروة قد تتمثل «بالقشة التي تقصم ظهر البعير». فهي في أبعادها قشة، لكن الخطر فيها هو في المفاعيل المتأتية عنها. ماذا عن أميركا حاليا؟ وهل وصلت إلى نقطة الذروة؟
عندما أرادت أميركا أن ترد على 11 سبتمبر في أفغانستان، أرادت شرعنة أعمالها العسكرية. فلجأت إلى شرعنة الأمم المتحدة التي تسمح لها بالدفاع عن نفسها. وهي أرادت المساعدة من باكستان في المجالات كافة، حتى في السماح لها باستعمال أجوائها. وهي التجأت إلى روسيا، كي تغض النظر عن تطفلها في مناطق نفوذها في آسيا الوسطى. وهي أيضا، أرادت مباركة الأمم المتحدة للعمل العسكري، حتى ولو كان الكل يعرف أنه باستطاعتها الذهاب منفردة من دون إذن أحد.
أما فيما خص العراق، فإن أميركا وبسبب الممانعة العالمية للحرب، نراها تذهب إلى الأمم المتحدة ـ مجلس الأمن. صحيح أن هذا الذهاب كان نوعا ما هجوميا، لكن القرار 1441 صدر عن منبر هذه الهيئة العالمية. وهي أرادت إجماعا عند التصويت على القرار، فعمدت إلى الضغوط على مختلف الفرقاء، وخصوصا الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن والذين يحصلون على المساعدات الأميركية.
بعد صدور القرار، أصبحت أميركا أسيرة ما يُنتج هذا القرار. أو كما يُقال في العامية «دخلت أميركا في اللعبة من دون أن تدري». فهي عليها أن تنتظر نتائج التفتيش والتقارير التي سيكتبها بليكس. وهي غير قادرة على إدخال عملية إطلاق العراق صواريخه على طائراتها ضمن «الخرق المادي» للقرار 1441، كي تبرر ضربه عسكريا. وهي عليها أيضا أن تنتظر نتيجة دراسة فريق التفتيش، وهيئة الطاقة الذرية الدولية للائحة العراق المقدمة تنفيذا للقرار 1441. فاللائحة مؤلفة من 12000 ألف صفحة، و352 صفحة من الإضافات، و529 ميغابايت من المعلومات الإلكترونية.
هذا مع التذكير بأن تقرير العراق المقدم إلى مجلس الأمن العام 1991 لم يتجاوز الـ 30 صفحة. لكنها في الوقت نفسه تستعد عسكريا. لكن الاستعداد العسكري يستلزم تجميع الحلفاء، لتوزيع المهمات والجهد، ولتوزيع الكلفة إذا صح التعبير. لذلك هي توسع الناتو، وترسل المبعوثين إلى الدول المحيطة بالعراق كي تسهل هذه الأخيرة الخطط الأميركية. تركيا مهمة، الكويت، قطر، السعودية، الأردن. لكن هذه الدول ترتاح أكثر من خلال مجلس الأمن والمرجعيات الدولية. إذا كل شيء يكمن في تأمين الغطاء الدولي للتصرف الأميركي، أو بالأحرى تأمين الشرعية الدولية من المرجع الصالح.
حاولت أميركا أن تمسخ صورة الأمم المتحدة ومجلس الأمن. فالرئيس بوش هددها بأن الزمن قد تخطاها، وانها فقدت صدقيتها. وهو يحاول إيجاد مرجعية دولية أخرى تحل مكان الأمم المتحدة. لذلك تساءل الدبلوماسي الأميركي ريتشارد بيرل خلال نقاش دار في براغ حديثا عن مدى شرعية الأمم المتحدة، فقال: «... هل يمكن للأمم المتحدة أن تؤمّن الشرعية، أفضل من تحالف دولي يقوم على دول ليبرالية ديمقراطية؟ إن مصير الأمم المتحدة، هو كسابقتها عصبة الأمم... في الأمم المتحدة، تُشترى وتُباع الأصوات... وقد سمعت مرة هلموت شميت يقول، إن الأمم المتحدة هي صندوق رمل العالم الثالث... لماذا الأمم المتحدة مصدر الشرعية وليس الأطلسي (الناتو) فيما خص استعمال القوة؟ فالأطلسي مؤلف من تجمع دول ديمقراطية أظهرت عبر تاريخها أنها عاقلة لا ترغب في التوسع، وهي ترغب فعلا في تأمين السلم والاستقرار...». على رغم هذا المسخ الأميركي للأمم المتحدة، يمكننا القول إن أميركا والى إشعار آخر قد وصلت إلى نقطة الذروة في تفردها. فهي بحاجة ماسة ودائمة إلى شرعنة أي عمل تقوم به، خصوصا في البعد العسكري. ويعود هذا الأمر، إلى أن أميركا لم تطمئن الحلفاء إلى أن قوتها العاتية هي موجهة ضد الشر فعلا، وأنها سوف لن تستخدم لتثبيت هيمنتها. في الختام تكمن مشكلة بوش الأساسية في أنه عكس نمط السلوك الرئاسي الأميركي الذي سبقه. فبدلا من أن يكون الشعار «معا إذا أمكن، منفردين إذا اضطررنا». أصبح شعار بوش الابن، «منفردا إذا أمكن، معا إذا اضطررت». وهنا مكمن الخطورة
العدد 103 - الثلثاء 17 ديسمبر 2002م الموافق 12 شوال 1423هـ