في وقت أظهرت فيه استطلاعات الرأي نمو ظاهرة العداء للإسلام (إسلامفومبيا) و«السامية» في أوروبا، تصر تركيا على طرق أبواب القارة وقبول عضويتها في الاتحاد. لجأت أنقرة إلى الولايات المتحدة للضغط على الدول الكبرى في الاتحاد الأوروبي لقبول طلب انضمام تركيا وردت أوروبا باللجوء إلى ملفات سياسية تتصل بجزيرة قبرص أو ملفات لها علاقة بقضايا حقوق الإنسان مثل معاملة الأكراد باعتبارهم أقلية من الدرجة الثانية أو التعامل مع الأحزاب المعارضة وتحديدا الهيئات والمنظمات الإسلامية التي تخالف تقليديا النظام العلماني ـ الأتاتوركي.
الولايات المتحدة تنظر إلى تركيا من زاوية الجغرافيا ـ السياسية وترى أن أنقرة من حقها أن تنال عضوية كاملة في الاتحاد بعد أن أثبتت حيويتها ودورها في مختلف الشئون وتحديدا في المجال العسكري وموقعها الاستراتيجي المميز في شرق البحر المتوسط وقيامها بجهود خاصة في إطار عضويتها الكاملة في الحلف الأطلسي (الناتو).
أوروبا تنظر إلى تركيا من زاوية التاريخ والثقافة. فهي بحاجة إلى هذه الدولة باعتبارها موقعا استراتيجيا ـ جغرافيا ولكنها تريدها من خارج سياق الانتماء الحضاري ـ الديني. أوروبا تريد من تركيا أن تلعب دور الأجير أو الوكيل وغير مستعدة حتى الآن لقبولها طرفا أصيلا في اللعبة له حصة متساوية في الأسرة الأوروبية.
منذ أكثر من ثلاثين سنة وتركيا تقرع الأبواب محاولة الدخول وأوروبا تحتال وتتذرع بشتى الأسباب والوسائل رافضة طلب أنقرة. وافق الاتحاد على قبول تركيا في مختلف الميادين منها العسكري والرياضي والموسيقي ومسابقات ملكات الجمال وغيرها من قطاعات، بقصد اختبار النية وقياس مدى الاستجابة، إلا أنها رفضت فتح أبواب الميادين الأخرى كالاقتصاد والمال والتجارة والسياسة وغيرها... وكلها ضرورية لقبول عضويتها الكاملة في الاتحاد.
مضت أكثر من ثلاثين سنة وتركيا تواصل طرق أبواب أوروبا مقدمة لها كل ما طلبه الاتحاد من حسن نية واستعداد للولاء والخضوع للشروط كافة... وأوروبا رأت في تلك التنازلات درجات جيدة لكنها ليست كافية لنيل الجنسية الأوروبية. فمشكلة تركيا ليست في السياسة بقدر ما هي في الهوية. المشكلة في الانتماء الديني (الحضاري ـ الثقافي) وليست في الميول السياسية والأهواء الاقتصادية والتطلعات المستقبلية. مشكلتها في أهلها لا في دولتها. فالدولة في تركيا علمانية، أما مجتمعها فهو شديد التعلق بإسلامه وتاريخه.
مشكلة تركيا تبدأ من هنا. فهي أمة غير متجانسة بين مجتمعها ودولتها. وهذا التناقض أو التعارض بين المجتمع والدولة أسس مشكلة مزمنة تركزت في مسألة الهوية. الدولة تبحث عن هوية جديدة ومصطنعة والمجتمع يتمسك بهويته التاريخية الموروثة عن العثمانيين. وأزمة تركيا مشابهة لأزمة علاقة الدولة بالمجتمع في المنطقة العربية الإسلامية. والمأساة تبدأ في اللاتجانس وعدم الانسجام بين دولة النخبة ومجتمع الأهل. هذه المعضلة ليست مطروحة في معظم الدول الأوروبية لأن الدولة هناك هي نتاج تطور المجتمع وتقدمه الخاص في بيئته الجغرافية ـ التاريخية. والدولة في معظم أوروبا ليست هيئة سياسية مفروضة من فوق على المجتمع، بل هي نتاج تآلف زمني بين تطور هيئات المجتمع المدنية (الأهلية) وتقدم مؤسسات الدولة في سياق التطور ووحدة الأمة.
هذه الحلقة المفقودة في تركيا الحديثة (الأتاتوركية ـ العلمانية) كسرت تواصل حلقات السلسلة بين أوروبا وتركيا. فتركيا تنظر إلى نفسها باعتبارها دولة أوروبية، وأوروبا ترى تركيا دولة مسلمة تريد خرق الانسجام (المهزوز أصلا) في القارة. وفتح الباب لتركيا يعني مستقبلا احتمال فتح أبواب أوروبا لدول أخرى تشبه تركيا أو هي على ضفافها الجنوبية ـ الغربية (المغرب مثلا).
تركيا بالنسبة إلى أوروبا لا تعني مجرد دولة... إنها هوية مخالفة ومغايرة ودخولها يعني كسر الحد الأدنى من التجانس في الهوية بين المركز (الدول المؤسسة للاتحاد) والأطراف (الدول المنتسبة حديثا إلى المنظومة الأوروبية). وتركيا في هذا المعنى ليست من المركز ولا من أطراف القارة، إنها طرف الطرف وهي نهاية قارة وبداية قارة.
أوروبا تميل إلى أن تبقى تركيا قاعدة عسكرية تنطلق منها الطائرات والجيوش، فهي تريدها باب أوروبا إلى الشرق وليس باب الشرق إلى أوروبا.
هذا هو ملخص الحوار التركي ـ الأوروبي منذ أكثر من ثلاثين سنة، وهو أقرب إلى حوار حضارات منه إلى نقاشات مركزة على سجلات طلب عضوية كاملة في الاتحاد. فالنقاش ليس على أهمية تركيا وموقعها ودورها وإنما على هويتها (مجتمعها وتاريخها). وهذه اللغة في معناها ومبناها تعرفها الولايات المتحدة وتدرك أنها من أسباب امتناع أوروبا عن قبول عضوية تركيا الكاملة في الاتحاد. ولأجل هذه الأسباب تضغط واشنطن لقبول أنقرة في الاتحاد. وأوروبا تعلم أن ضغوط واشنطن عليها ليس سببه السياسة والاقتصاد وإنما توريطها من طريق إغراقها بالمزيد من الدول كما فعلت في قمة كوبنهاغن الأخيرة حين وافقت على دخول عشر دول دفعة واحدة إلى الاتحاد
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 103 - الثلثاء 17 ديسمبر 2002م الموافق 12 شوال 1423هـ