«المعاداة للسامية» عنوان عام لجريمة كبرى يعاقب عليها المرء في أميركا وأوروبا، وهي عنوان عام لاتهام كل شخص يختلف مع النهج الذي انتهجه «بعض» اليهود الذين أسسوا الحركة الصهيونية قبل مئة عام في مدينة باسل بسويسرا. المعاداة للسامية تستخدم لتعريف الأشخاص والمنظمات والدول وغيرها التي لها اختلاف مع الحركة الصهيونية، التي أصبح لها دولة منذ العام 1948 في فلسطين. المعاداة للسامية لها فعالية خاصة في السياسة، ويتدخل الرئيس الأميركي هنا وهناك لمعاقبة الدول التي قد ترفض السماح لفيلم سينمائي يعرض القضية اليهودية من وجهة النظر الوحيدة المسموح بها (وجهة النظر الصهيونية) في عالم الحرية الفكرية وحرية التعبير عن الرأي. المعاداة للسامية تستخدم ضد مفكر يصدر كتابا يناقش فيه بعض المقولات الصهيونية ويحاول الرد عليها. ودول الحرية الفكرية تضحي بكل قيمها لتعتقل وتحاكم وتطارد وتعاقب من تتهمه بالمعاداة للسامية. إن المعاداة لليهود ليست ظاهرة شرقية وليست ظاهرة إسلامية. إنها ظاهرة أوروبية وصادرة عن الذين يتهمون الشرقيين والمسلمين بها.
لقد عاش اليهود في أوساط المسلمين عهودا طويلة، وكانوا يمارسون النشاط التجاري مع المسلمين، وأصبح لهم باع في السوق المالية أثناء عز الدولة الإسلامية. ذلك لأن المسلمين كانوا يثقون باليهود أكثر من وثوقهم بالمسيحيين الذين دارت معهم حروب صليبية آنذاك، اليهود الأوروبيون عانوا الكثير من الاضطهاد والكراهية لهم وأصبحت معاداتهم أثناء نمو الحركة القومية الأوروبية دعاية سياسية مربحة للأوروبيين. كل هذا وذاك دفع اليهود إلى التحرك من أجل الحفاظ على أنفسهم في ظل المعاداة لهم في أوروبا.
ولكن المصيبة أن الحركة الصهيونية عمقت الشعور لدى جماهير اليهود إلى الدرجة التي خلقت لديهم «معاداة» للآخرين، وبررت لهم أن يذبحوا ما يشاؤون في «دير ياسين» وفي بلاد المسلمين انتقاما من الكراهية التي كانوا يتعرضون لها في أوروبا. ربما أن مأساة فلسطين لم تكن ستحدث لو أن اليهود لم يُظلموا ولم يُستهدفوا بالكراهية في أوروبا. ربما أن مأساة فلسطين لم تكن ستحدث لو أن العرب لم ينخدعوا بفرنسا وبريطانيا ولم يتحالفوا مع المستعمر الأوروبي ضد الدولة العثمانية لتحطيمها. ربما أن مأساة فلسطين لم تكن ستحدث لو أن نتيجة الحرب العالمية الثانية لم تكن لتنتج نظاما دوليا ينحاز لجانب الحركة الصهيونية بعد دقائق من إعلان بن غوريون «دولة اسرائيل». ربما ان مأساة فلسطين لم تكن ستحدث لو أن الشرق الأوسط لا توجد فيه مصادر طاقة تسعى الولايات المتحدة إلى إحكام السيطرة عليها من خلال تعزيز موقع استراتيجي ضارب (ويمتلك أسلحة الدمار الشامل بأكثر مما يمتلكه أي طرف آخر في الشرق الأوسط). ربما أن مأساة فلسطين لم تكن ستحدث لو أن العرب لم يتورطوا بزعامات تتحدث كثيرا وتتهرب سريعا. ربما أن مأساة فلسطين لم تكن ستحدث لو أن الطليعة السياسية كانت صادقة مع نفسها ومع شعوبها وأخبرتها بحقيقة الأمور بدلا من إغراقها في الدعايات التي لا يُعرف الحق من الباطل فيها. ربما أن مأساة فلسطين لم تكن ستحدث لو أن «الجامعة الإسلامية» ظهرت إلى الوجود. ربما أن مأساة فلسطين لم تكن ستحدث لو أن الجامعة العربية كانت قوة حقيقية على الساحة الدولية. ربما، ربما، ربما وربما.
ربما أن هذه الآمال لا تفيد كثيرا، وذلك لأن المنطقة العربية والإسلامية فقدت الكثير من مقومات قيامها الحضاري. فالسلطنة العثمانية كانت متخلفة ومتأخرة ولكنها أيضا كانت مستهدفة لأنها تمثل قوة إسلامية. تلك السلطنة بدأت تتفكك داخليا قبل أن تنتهي تحت الضغط الخارجي. دعاة التحديث ربطوا مصيرهم بالمستعمر والمنتدب ليكتشفوا بعد ذلك أن أقوى الدول الأوروبية لم تكن تسعى إلى شيء سوى تقسيم المجتمع الواحد إلى مجتمعات ودول اثنية وإقليمية متنافرة بين بعضها الآخر. ثم ما لبث الانتداب الأوروبي أن دخل في معركة مباشرة ضد الحركة القومية العربية بعد أن رأى القوة التوحيدية الكامنة فيها. ربما لو أن عالمنا الحضاري لم ينهار لكان باستطاعة اليهود أن يجدوا مأمنا من الاضطهاد الأوروبي من دون الحاجة إلى أن يتحد «الكاره» الأوروبي و«المكروه» اليهودي ضد الطرف «غير المعني» بتلك الكراهية أو المعاداة للسامية.
بعد خمسين عاما تتكشف الحقائق لنا لنرى أن زعماء العرب لم يكونوا معنيين بالقضية الفلسطينية، ليس لأن جميعهم سيئون، ذلك لأن بعضهم كان مخلصا بدرجة معينة، ولكن لأن المعادلة السياسية التي أسست الشرق الأوسط، والأفكار التي حركت الجماهير والنخب والأسس التي قامت عليها «الدول القومية» الحديثة، جميعها تفرض عليهم واقعا مريرا وانهزاما حضاريا ومعنويا. وزعاماتنا ربما كانت ضحية ظروفها وعجزت عن مواجهة الواقع بأبعاده المختلفة.
الأسوأ من كل ذلك هو أننا الذين لم نعادِ السامية نقع ضحايا للكاره الأوروبي والمكروه اليهودي. ويزداد السوء عندما ينطلق مشروع السلام على أساس فرض الهيمنة من جانب وتعزيز التجزئة والتقسيم السرطاني من جانب آخر
إقرأ أيضا لـ "أفق آخر (منصور الجمري)"العدد 102 - الإثنين 16 ديسمبر 2002م الموافق 11 شوال 1423هـ