العدد 102 - الإثنين 16 ديسمبر 2002م الموافق 11 شوال 1423هـ

صالح الحربي يكتب نصا حارقا

ترتعب المسافة الفاصلة بين التشكيلي والشاعر في مكالمة صالح الحربي، وتكاد تتسع أحيانا لتستوعب غدقا من الدهشة وبعض اعتراضات عابرة. هذه المسافة المشطورة أصلا في كل مساءلة فنية مكتنزة تتقاطع في ديوان (أرى نسوة يسقين الجثث) مع مسافة انطولوجية متوترة يتجاذبها انشطار الروح التي استطابت السكنى بين السطور، والجثة التي مازالت تهيم في مكان ما، وهو ما يضفي على مدار الرؤية - وهي في طور التشكل - ارتقابا شكوكيا يؤججه استحواذ غاشم على النسوة الكثيرات والقفول بها تجاه جثث الشعراء وكبارالمبدعين والتي تحضر اطيافها الرامزة تترى عبر علاقات شاخصة بين نصوص وشواهد تزرع الأرواح والأسماء والأعلام، فيما تتقاسم جسدية التشكيلي وروحانية الشاعر مهمة الامساك بمشعات اللوحة من ناحية، والافصاح من ناحية اخرى عن كثافة شعرية تنفك عقدها في دسيسة ذكروية تخفي الكيد الانثوي الماكر كمعادل باطني لا وعي لها.

اما الرؤيا، بمشاغلها المقصدية المفتوحة، فتبدو عند الحربي فارهة وحارقة معا، فهي تستظهر المرأة في ملمح مراوغ من ملامح الارتقاء صوب الذاتية والفحولة الشرهة، ولكنها تبتدع في الآن نفسه مقولتها الحامية التي تأخذ من الكتابة الجديدة صفتها الاكيدة، بما يعنيه ذلك من هدر فني متعمد لأسس التنظيم الشعري المعتاد. ولذلك تشيع في لغة الحربي دادية تعطف على شكل سوريالي فطن باتخاذه لغة اقل احتواء على الالغاز والتعمية وتضمنه علاقات نصوصية حاشدة تتقاسم منجز تكسير النظام وإشاعة الفوضى المتناسقة والاستعارات الانفصالية، من غير ترحيل على حسم نهائي او توقف مفاجئ منبسط يشتت الانشداد ويوقف تخالق الدوال.

وإذا كانت هذه التركيبة المستنفرة تستصوب مقترحها من الأسطول النقدي الذي يمثله الاتجاه الما بعد حداثي لإيهاب حسن، فإن الايعاز الفني في (أرى نسوة يسقين الجثث) يستظل بإشارات وعلامات حالكة في وضوح مرجعيتها الخارجية/ النصية، هذه الحلكة ترسم وضوحها من الفراغ الفيزيقي للنص والبنية الحوارية المتناوبة والاستدعاء البائن للمعارف والمعروفين والتناسخ اللغوي المسترسل حينا والمتقطع حينا آخر.

وفق ذلك يصعب التبرك بالنص النموذج أو المتكامل الحاكي عن الرؤية، فالديوان إحالة على اكثر من ثيمة نصية، ولا يكاد يتصالح السياق الخارجي مع مدى الرؤية الظاهرة حتى يتثبت في نهاية المطاف بسياق (سيكو لغوي) وإشعار (ميتا نصي) يشفر المعنى ويزيح عنه الخاصيات الفردية، أما المساقات الدلالية فإنها تأسس على حقول فائضة تعين انتقال الرؤية إلى رؤى، ويمكن التأشير إلى المفردات الحقلية التالية: المساء، السماء، القبور، الجثة، الكفن، الكآبة، الأبواب والنوافذ، المدينة، العشق، واذا كان استخلاص المعنى هو جهد عبثي إزاء اجتهاد شعري معاد للوضوح والانسجام، فإن المواد الخام المتاحة أمام قارئ ديوان الحربي تغري بتشكيل معنى أو آخر يتعاطف مع المعنى الكلي الذي يصيغه الاجتماع التقليدي للمفردات السالفة، إذ تنطوي لديه الرموز المشخصة على رغبة في استقواء الذات وحمايتها من التشظي والوحشية، وبحسب تمييز رولان بارت للرموز في كتابه (s/z) بين القابل للكتابة والقابل للقراءة، فإن خاصية القابلية للكتابة في رموز الحربي هي البارزة نظرا لطابعها المحسوس والحركي، وهو طابع يختلج في إطار عملية بناء وإنتاج دائمة الحركة وفق فكرة المدونات أو الشفرات الخمس التي تحدث عنها بارت بوصفها الشبكة التي تخلق النص.

نقرأ:

- في المساءات/ الممتلئة حزن ضبابي/ أرى نسوة/ يتجهن نحو القبور/ ويحفرن قبري...».

- يبدو أنني/ سأحمل رأسي/ واقدمه إلى السياف.../ وأمشي/ إلى قبر/ محفور/ وأرمي جثتي بداخله.../ يا ترى من سيصلي على جنازتي/ ياترى من سيهيل عليّ التراب...؟!»

- «أهذا.../ ليل.../ أم.../ حنجرة.../ ناي حزين؟؟»

هذه الامثلة المنتقاة اعتباطا تؤكد ضرورة الحس والحركة في استشعار داخلية الصورة، وانصراف الحربي إلى إحضار جمهرة من الاسماء والاصدقاء على امتداد الديوان، رموزا وعلامات، يصقل الغرض المحاكاتي للصورة ومناظرتها للواقع على نحو خائلي (virtual)، فتبدو منحلة إلى الواقع والشهود في حين أنها تتجاوزه وترمزه.

والحضور التشكيلي في نص الحربي - الذي كتب في اماكن مختلفة وعلى مدى سنوات متقطعة - يوغل هذا المنحى إلى حد الاشتباه والظن بأننا إزاء لوحة لم تكتمل بعد





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً