العدد 102 - الإثنين 16 ديسمبر 2002م الموافق 11 شوال 1423هـ

بين طوبى المثقف وبناء الدولة:تياران وقضية

دمشق - تركي علي الربيعو 

تحديث: 12 مايو 2017

في «مقدمات ليبرالية للحداثة، 2000» الكتاب الصادر حديثا عن المركز الثقافي العربي في بيروت وبمساعدة بعض المؤسسات الأخرى، كتب المفكر المغاربي عبدالله العروي مقالا تحت عنوان «إرث النهضة وأزمة الراهن» يقول فيها: من يدعو إلى الإصلاح عليه أن يعمل ليكون المجتمع قادرا على إخضاع الدولة لأهدافه ومصالحه.

وهنا يتساءل العروي: هل عرف أي قطر عربي في أية فترة من تاريخه حال تسبيق المجتمع على الدولة، لنقل حالا توظف فيها قدرات الدولة لتأسيس المجتمع على شكل يؤهله للاستغناء لاحقا وبالتدريج عن كثير من صلاحيات تلك الدولة؟

ومع بداية عقد الثمانينات من قرننا الماضي. كان العروي على يقين بأن إشكالية السلطة والمثقف هي إشكالية زائفة، وأن الأزمة في النهاية هي أزمة مفاهيم. وفي هذا السياق جاء كتابه «مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي، 1981» ليسد ثغرة على حد تعبيره. فقد أهمل المثقفون العرب المشدودون إلى «طوبى الماركسية» على حد تعبيره، أو إلى «طوبى الخلافة» نظرية الدولة بضغط شعور لا واعٍ بأن النظرية قد تركز نهائيا الكيانات الإقليمية، وركزوا نقدهم على السلطة. ولكن هذا النقد ومن وجهة نظر العروي، كان يضعف كيان الدولة من دون أن يضمن حرية الفرد.

كانت وجهة نظر العروي ترى أن المثقفين العرب المشدودين إلى «طوبى الوحدة القومية» يقفون عند مستوى الحلم ولا يتجاوزونه إلى مستوى الواقع، إذ الدولة ومشكلة الحرية، والأهم حيث الدولة والوحدة. إذ لا يمكن تحقيق الوحدة من دون جهاز دولة؟

كان رأي العروي السابق «لا يمكن تحقيق الوحدة من دون جهاز دولة» ينطوي على شيء من الحقيقة التاريخية، وعلى كثير من التبرير لسلوك «دولة شرق المتوسط» الاستبدادي بحجة أنها دولة الوحدة المرتقبة. وقد كان العروي واعيا لذلك، لنقل لمزالق الدولة الاستبدادية، لكنه اعتبره شرطا، فقد كتب يقول: «قد تقوي نظرية الدولة، مؤقتا، الكيان القائم بإعطائه، لأول مرة في تاريخ التجربة السياسية العربية، الشرعية الضرورية، لكن من المحتمل أن تهدينا بالمناسبة، إلى طرق واقعية لتحقيق الوحدة ومزاوجة الدولة بالحرية والعقلانية».

صحيح أن دعوة العروي لم تقع في حبائل التبشيرية الساذجة بإبقائها مجال الاحتمال مفتوحا، لكنها كانت مضمرة بالدعوة إلى المصالحة بين السلطة والمثقف بتجاوز «طوبى المثقف» باتجاه بناء الدولة. وكان هذا يقتضي من المثقف الكف عن نشر الغسيل الوسخ، بل وتبرير فاعلية السلطة تجاه أولئك الساعين إلى نشر الغسيل في «شرق المتوسط مرة أخرى» بحسب رواية عبدالرحمن منيف. وستؤتي هذه الدعوة ثمارها بعد حين.

مع بداية عقد الثمانينات، وبموازاة عمل العروي، آثر محمد عابد الجابري الهجرة في الاتجاه المعاكس في بحثه عن رؤية المثقف العربي إلى الدولة، داعيا إلى «قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي» كما تضمنها كتابه الموسوم بـ «نحن والتراث، 1980» الكتاب الذي أثنى عليه محمد أركون واعتبره واحدا من أهم الكتب في الآونة الأخيرة. كانت «القراءة المعاصرة» مسكونة بشواغل أيديولوجية وظرفية جامحة في أحكامها على تراث ابن سينا والفارابي، وذلك عندما اعتبرتهما أنموذجا للفكر الشعوبي الذي تغلغل داخل العقل العربي الإسلامي ودفعه إلى الاستقالة، ولكنها ـ أي هذه القراءة ـ قادتنا إلى آفاق جديدة وخصوصا في قراءتها للخلدونية (نسبة إلى ابن خلدون). من وجهة نظر الجابري وتحت عنوان «ما تبقى من الخلدونية: مشروع قراءة نقدية لفكر ابن خلدون» أن الخلدونية التي نظرت للدولة هي مشروع نظري وواقع حضاري إنها في آن واحد نظرية في التاريخ العربي وجزء من هذا التاريخ نفسه. وأن ما يستهوينا في الخلدونية هو أنها تتحدث عما لم نستطع نحن الكلام فيه بعد. فلابد من التأكيد من جهة أخرى أنه لا يمكن أن نحققها نظريا إلا إذا ألغيناها واقعيا. والجابري يدعو بصراحة إلى تجاوز الخلدونية بالتحليل والنقد لأن الخلدونية واقعا حضاريا مازالت تكبل مجتمعنا، فـ «الدورة العصبية» التي فسّر بها ابن خلدون تاريخ ظهور الدولة في التاريخ الإسلامي وتاريخ زوالها جعلت فلسفته التاريخية فلسفة مغلقة خالية من كل تطلع أو استشراف مستقبلي. ولكن هذا لا يعني أن ابن خلدون لم يكن عظيما فعظمته تكمن في فضحه لواقع لما نستطع بعد تغييره كما يقول الجابري.

كانت «القراءة المعاصرة» عند الجابري تعتمد الفصل والواصل، فجعل المقروء معاصرا لنفسه معناه فصله عنا... وجعله معاصرا لنا معناه وصله بنا، ووصله بنا يعني أمورا عدة أولها أن إشكالية السلطة والمثقف في الواقع العربي لاتزال ماثلة وبكل حضورها، وبالتالي فهي ليست منقولة من نموذج آخر كما يرى كثيرون. وثانيها أن المثقف العربي الإسلامي كان أقدر على مواجهة المسألة لكي لا نقول الإشكال، وأقدر على فضح الواقع الذي عجز المثقف العربي المعاصر عن تغييره، وثالثا «إن ما تبقى من الخلدونية هو ما يجب أن ننجزه وليس ما أنجزته» والتعبير للجابري.

ما كادت تمضي سنتان على طرح العروي والجابري إشكالية المثقف والدولة في المجال العربي الإسلامي، وفي الحاضر الهجين، حتى وقعت هزيمة يونيو/ حزيران 1982 عندما اجتاحت جيوش العدو الصهيوني لبنان، والتي تزامنت مع إعلان اليسار العربي الراديكالي فشله في ندوة نيون في سويسرا 1983، في تحقيقه الحرية والتنمية.

في أعقاب الهزيمة، انقسم أهل الرأي من المثقفين العرب إلى تيارين مع بعض التفريعات. التيار الأول دعا من جديد إلى طرح إشكالية السلطة والمثقف على بساط البحث، أما التيار الثاني فقد دعا إلى مصالحة تاريخية بين المثقف والسلطة بهدف شد أزر الدولة ومساعدتها على مواجهة التحديات وإنجاز مهماتها التاريخية.

التيار الأول ويمتد من محمد عابد الجابري إلى إدوارد سعيد وسعدالله ونوس وعبدالرحمن منيف. هذا التيار يرفض كل أشكال التبرير، وخصوصا سقوط المثقف في أوحال السلطة كما فعل سعدالله ونوس في مسرحيته «منمنمات تاريخية» التي قرأ فيها رسوب ابن خلدون في امتحان السلطة. وقد دفع هذا بالجابري إلى إعادة نظر جذرية في «نظرية ابن خلدون في الدولة العربية» (الفكر العربي المعاصر، العددان 27/ 28 خريف 1983). وكان هذا يقتضي قراءة في الخطاب السياسي الخلدوني باعتباره «قمة» الخطاب السياسي العربي على حد تعبير الجابري، والكشف عن البنية اللاشعورية المؤسسة للخطاب السياسي الخلدوني. وقد وجد الجابري أن هذا الخطاب مسكون بالحتمية وهذا يعني الانغلاق، وانه مبني على العنف إذ تطغى عليه مفاهيم العنف والاستبداد على حساب المفاهيم التي يتشكل منها الخطاب السياسي المدني. من هنا أتت دعوة الجابري الملحاحة إلى تجاوز الخطاب السياسي الخلدوني باتجاه أفق سياسي مدني جديد ودولة مدينية جديدة سكت عنها ابن خلدون.

التيار الثاني ويمتد من العروي إلى سعدالدين إبراهيم صاحب الدعوة الشهيرة إلى تجسير الفجوة بين النخبة وصنّاع القرار مع أن محاكمته المستمرة وسجنه يشهدان على أنه أولى ضحاياها، إلى مطاع صفدي حديثا، إلى رضوان السيد في بحثه عن إشكالية السلطة المثقف (جريدة «السفير»، يوليو/ تموز، 1998) إلى كثيرين. هذا التيار كما أسلفت يقول بالمصالحة ويعتبر أن إشكالية السلطة والمثقف هي إشكالية مصطنعة ومنقولة عن النموذج الفرنسي بعد قضية (درايفوس) وأن المطلوب هو تقوية الدولة لا إضعافها، وإعادة اكتشافها واكتشاف وظيفتها الحضارية في المجال العربي الإسلامي (الفضل شلق، الأمة والدولة في المجال العربي الإسلامي، 1993) وقد تفرع عن هذا التيار اتجاه يذهب إلى مصالحة السلطة على حساب الجماهير بحجة أن الجماهير رعاع ويجب تأديبها وهذا ما يمثل من وجهة نظرنا ما أسميناه ذات مرة بـ «فضيحة المثقف».

من وجهة نظري أن هذا كله قد يكون شاهدا على ثراء فكري يصيب الخطاب العربي المعاصر في عقوده الماضية، صحيح أن هناك ما يشبه الفضيحة في بعض الخطابات التبريرية، ولكن إعادة اكتشاف نظرية الدولة في المجال العربي الإسلامي وإن كانت متأخرة، تمثل إنجازا وخصوصا في تأكيد الوظيفة الحضارية للدولة باعتبارها «مؤسسة العمران ومادته»، وقد تساهم في تجاوز إشكالية السلطة والمثقف والتركيز على الإصلاح بهدف توظيف قدرات الدولة لتأسيس المجتمع وهذا ما يتمناه العروي وكثيرون





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً