العدد 101 - الأحد 15 ديسمبر 2002م الموافق 10 شوال 1423هـ

هناء مرهون: عالم مؤثث بالماء، واحتفاء باللغة

القطيف - حسن المصطفى 

تحديث: 12 مايو 2017

بين وقت وآخر، تطلع على الساحة الثقافية أصوات جديدة، تحيي ما مات من أمل، وتبعث من جديد قيامة الإبداع.

هذه الأصوات تختلف لغة، وأسلوبا، ومعرفة، وهي بذلك تتباين فيما بينها، لكنها بمجموعها تشكل حالا ثقافية آخذة في التشكل، منبئة بمقدرة على اجتراح نصوص وبناء سرد يمتلك ناصية اللغة، ويجيد التعامل معها.

من ضمن هذه الإبداعات، يقف المتابع على نتاج القاصة هناء مرهون، على رغم مشاركاتها القليلة، ومحدودية ما نشر لها من نصوص.

هذه القاصة، وعلى رغم شحة ما يمكن الوقوف عليه من نصوصها - 5 نصوص فقط - فانه وعبر هذا النزر القليل، يمكن أن يتنبأ القارئ بكاتبة تجيد لعبة اللغة، وتعرف كيف يكون نصها مطاوعا وفي متناول يدها، من دون أن تكتب هذا النص بلغة عقلانية محضة، وإنما عبر تدفق لغوي، بسيط وشفاف، يأخذ من التلقائية وصفاء اللغة أساسا له.

في نصوصها الخمسة: «ذاكرة تشبه ذاكرة الورد»، «عرق الماء»، «من أعرافنا / لحظة الموت»، «تتوسد روحي على مقربة منهم»، «هروب الكرز»، احتفاء واضح باللغة، فاللغة مادة النص، وهي تحيلنا إلى ما كتبه رولان بارت في هذا المجال، مؤكدة أن اللغة هي النص، والنص هو اللغة. هذا يتضح عندما نراها تعلن ذلك قائلة: «آمنت بنصي». هذا الإيمان بالنص هو إيمان بلغته، التي هي هو، وهي بذلك تضع اللغة موضع الآلهة أثناء فعل الكتابة. هذه اللغة وعلى رغم تأثرها بمبدعين آخرين أمثال: قاسم حداد بدرجة أولى، وأمين صالح بدرجة ما، فإنها لم تقع في تناص معهما، واستطاعت أن تكوّن لذاتها لغتها الخاصّة، وإن كانت في بداية تشكلها.

بالرجوع إلى العناوين الخمسة، يُلحظ ثمة شاعرية لا تستطيع إلا أن تعلن نفسها. هذه الشاعرية كانت نتيجة طبيعية للاحتفاء باللغة، بل هذه الشاعرية لم تقتصر على عناوين النصوص، وإنما امتدت إلى بنية النص ذاتها، لنقف على نصوص تمزج بين السرد والشعر، وبين لغة القصة ولغة الشعر، وهي بذلك تؤكد مقولة تداخل النصوص وامتزاج اللغة، والتي هي حصيلة قراءات متعددة وتراكم معرفي وذوقي جمالي، انصهر ضمن هذا السرد. «لصوت المطر ذاكرته الخاصة في وقت السجود، له رائحة وحنين، أتشبث بالتربة أحيانا ليشم جبيني شيئا من ذاكرة المطر... عندما نتناول جرعات الهدوء ونختفي في لحظة ما، تكون أقرب من قاب قوسين نكون حككنا الذاكرة بشيء من الحب والصدفة». هذه اللغة الشاعرية - كما يتضح في النص السابق -، سيطرت على نص «ذاكرة تشبه ذاكرة الورد» بأكمله، لذلك جاء منولوجا داخليا أخذ من السرد والشعر مادته، متجاوزا التصنيف التقليدي «قصة قصيرة»، «شعر»، ليكون «نصا»، ونصا فقط.

في «ذاكرة تشبه ذاكرة الورد»، تأخذ هناء القارئ لإزاحة جمالية وظيفية، عندما تحيل وظيفة الشم إلى الجبين بدلا من الأنف «تمنيت من السماء أن تكون زرقاء حتى النوم !! تمنيت أن أسجد في وسطها ليشم جبيني شيئا من ذاكرة المطر». هذه الإزاحة تحيل إلى حال السجود، والذي هو ضمن الأدبيات الإسلامية، أقرب وضع يكون فيه العبد لربه، وهي بذلك تعمل حاسة تتصل بالغيب وبالمطلق، من دون أن ترجع حاسة الشم إلى وظيفتها التقليدية. هذه الإزاحة تأخذ شكلا مفاجئا عندما تختم نصها معلنة أن: «المطر ذاكرة السجود»، خالقة علاقة بين المطر والسجود، كون الأول ذاكرة الثاني. هذه العلاقة لها جذورها في الكلاسيكيات الإسلامية، كون المطر/ الماء رمزا للطهارة والنقاء، ورمزا لتلك الرحمة من الله، والسجود حال من حالات الذهاب بعيدا نحو القرب من المطلق (الله) طلبا لرضاه وهباته، ضمن عملية تطهيرية للذات.

في هذا النص، ثمة احتفاء واضح بالماء، معلنة البهجة بـ «فوضوية الماء الرائعة»، مكررة ألفاظا تحيل إلى ذلك: المطر، ماء الورد، الماء، السماء وشواطئها، تبحر، الدمع، العرق... ولم يكن ذكر الماء مقصورا على هذا النص وحسب، بل امتد إلى باقي النصوص، ففي «عرق الماء»، حضر عنواناَ للنص، إضافة إلى تكراره في الداخل، وبالرجوع إلى النصوص يمكن الوقوف على ذلك.

الماء هنا، يرتبط بـ (ثيمة) لا تقل عنه حضورا، وهي (ثيمة) «الطهارة»، فـ «من يمتلك الماء يغمر به أعين الموتى ويقول: مطهرين مطهرين»، كما أن أمّها عودتها أن «أدفن جسمي في الماء وأتطهر»، هذا التطهر، مرده بحث الكاتبة عن حال من النقاء والصفاء، حال يكون فيها المرء صادقا مع نفسه، من دون أن يلجأ إلى الكذب والدجل. ما يؤكد ذلك، هو حبها للموتى كونهم: «لا يحتاجون إلى النفاق مثلما يفعل الأحياء من جنسي». هذه الرغبة في حال من الطهرانية، خلقت محبة مع الموت والقبور والموتى، لذلك تشعر بأن: «القبور تحبني، فهي تتشبث بأطراف عباءتي كلما مررت وحاولت تجاوز أحد القبور متجاهلة الآخر».

هذه العلاقة التعالقية بين نصوص هناء و(ثيمة) الموت، مردها بعد فلسفي، وجودي، عبرت عنه في نص «هروب الكرز» بكوميديا ساخرة: «يضحكني الوضع أحيانا، فالهاربون من الموت مشتاقون له أصلا، حتى قطة جارتنا التي يعرفها كل من يمتلك نقصا في عقله». هذه الثنائية بين الحب والبغض، الرغبة، ونقيضها، تظل ثنائية وجودية لم تشغل هناء فقط، بل كثيرا من الذين مارسوا الكتابة الإبداعية، مذكرة بقول الشاعر حسين المنجور: «نحن نحلم بحياة الموتى، والموتى يحلمون بنا». وهي على رغم الحضور الواضح لموضوع الموت في نصوصها فإنها من جهة جمالية لم تأخذ القارئ إلى عوالم سوداوية وعظية، بل حاولت أن تجمّل هذا العالم عبر لغة شعرية، في الوقت ذاته الذي لم تستطع أن تقدم إجابة معرفية عن هذا المشكل الوجودي.

في نص «من أعرافنا»، تحضر ثنائية الماء والتراب، الشيء ونقيضه، من دون أن تفكّكها، وليأتي الجواب في نص «عرق الماء»، قائلة «هدنة الماء على التراب». هذه الجملة يقرأ من خلالها أن الماء له حضور فاعل متحرك، وإلا ما معنى أن تكون له هدنة!. فالهدنة لا تكون إلا إثر حرب وفعل متواصل متحرك لا يهدأ. من جهة أخرى، فإن وجود الإشكالية والثنائية في نص، وجوابها في نص آخر، يوضح مدى تعالق النصوص فيما بينها، ومدى تداخلها بشكل يخلق منها نسيجا واحدا ووحدة عضوية متكاملة، الأمر الذي يمنح التجربة مزيدا من القوة، كونها تأتي ضمن رؤية لغوية ومعرفية مترابطة.

ما يميز نصوص هناء مرهون، هو خاتمتها القوية والمفاجئة، هذا الاعتناء بقفلات النصوص، يجعلها تنفتح على عوالم أكبر، ويخلق منها نصوصا مفتوحة على تأويلات أوسع، جاعلة القارئ في موضع سؤال وتفكير. «المطر ذاكرة السجود»، «هدنة الماء التراب»، «يقول أصدقائي: (المرآة لا ترينا وجوهنا بل هي من يرى وجوهنا في نفسها) كنت أسمع حديثهم الذي كان يريد مواساة ضعفي، فجأة انتابني سؤال، إذا انكسرت المرآة من الخاسر نحن أم هي؟»... . من خلال هذه الأمثلة، استطاعت هناء أن تكوّن لنصها بعدا معرفيا، على رغم كونه نصا شعريا بامتياز، والمقصود بالمعرفي هنا، مقدرة النص على حفز التفكير لدى القارئ.

هذه الإيجابية في نصوص هناء، لا يعني خلوها من بعض الثغرات، مثل وقوعها في فخ الخطاب المباشر في هذه الفقرة من نص «النافذة»: «كانت النافذة هي الطريق الوحيد بعد فقداني للمرآة واللحظة التي تنتاب غيري لكنها لا تنتابني ، حاولت لمسها فجاءت المرآة... (لا... هي لا تجرح مثل المرآة) قلت أحادث نفسي لكنها لحظة!! لم لا تكون لا مرآة ولا لحظة لم لا تكون (أنا) أنا مثل الطبيعة أصدقائي يعتقدون ذلك، لسبب بسيط أن الناس يرون الطبيعة لكن الطبيعة لا ترى ذاتها وربما لا ترى موتها وكذلك من أعراف كلينا لحظة الموت التي يجهلون»، وكان بإمكانها أن تتلافى هذه المباشرة التي جعلت الفقرة مرتبكة أسلوبيا لو انفلتت من لحظة الانفعال الذهني وقت الكتابة.

هذه السلبية، يمكن التخفيف منها بالمراس والجدّية في الكتابة، وتجربة كهذه على رغم حداثتها تمتلك لغة صافية، سيكون لها حضورها على الساحة الثقافية، وهذا ما ستكشفه الأيام





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً