كان البعض يتداول نكتة في السبعينات خاصة بالطلاب العرب من الخليج، تقول اذا اردت ان تنشئ شخصا معاديا للشيوعية ارسله للدراسة في موسكو، وان اردت ان تنشئ شخصا معاديا للرأسمالية ارسله إلى الولايات المتحدة. وليس بالضرورة ان تكون تلك المقولة النكتة صحيحة، ولكنها تعبر عن «المشكلة» التي كانت المجتمعات الخليجية على وجه الخصوص تواجهها، فلم تكن العواصم العربية آنذاك آمنة من الادلجة السياسية للطلاب، وكانت هذه المجتمعات تحتاج إلى كوادر متدربة لا تستطيع الجامعات العربية ان تستوعبها، فلم يعد امامها إلا ان ترسل طلابها إلى احد المكانين: أميركا أو بعضها، أو الاتحاد السوفياتي او اوروبا.
لقد تصور البعض ان تأهيل الجيل الجديد وارسال الطلاب لتلقي العلم في الولايات المتحدة يؤهلهم على اعلى مستوى للاشتراك في التنمية، لذلك فقد تم تشجيع غالبية الطلبة على الدراسة هناك، وكانت الخطة وقتها تطمح إلى ان يكون هؤلاء الطلاب جزءا من حل المشكلة التنموية في بلادهم فأصبح كثير منهم جزءا من المشكلة نفسها، إما بتحولهم إلى الارهاب او منصارة افكاره والدعوة إليه. لقد تدفق على الولايات المتحدة عدد وافر من الطلاب الخليجيين، من اجل التخصص في عدد من المساقات العالمية، خصوصا في الثمانينات من القرن الماضي، ولكن هذه الثمانينات كانت في الوقت نفسه تشهد صراعا ايديولوجيا بين الغرب الرأسمالي والشرق الشيوعي، ومن هنا وجدت الحركة السياسية الدينية الاسلامية لها مكاناَ للدعوة والتجنيد مرحبا به من قبل السلطات الاميركية، التي كان جزء من استراتيجيتها حربها ضد «الملحدين»... إلى هنا والامر يبدو طبيعيا، إلا ان اكثر المجندين كانوا من ابناء الخليج.
الضحية الحقيقية كانت طلابنا الصغار في السن والتجربة والخلفية التعليمية، فقد بدا ان هؤلاء الطلاب تحتضنهم عندما يصلون إلى الولايات المتحدة «مؤسسات الاسلام السياسي» فيصل الطالب إلى اية مدينة في الولايات المتحدة ليستقبل في المطار من «الاخوة» لينضم بعد ذلك إلى هذه المجموعات بإرادة واعية او بسبب قوانين الاجتماع الانساني تحت الترهيب والترغيب، وتقوم هي بتدبير معيشته وسكنه وحتى دراسته، ويتدرج الطلاب في دراستهم من دون ان يحتكوا حقيقة بالمجتمع الجديد، وهم في ريعان الصبا، يحتاجون إلى قيادة وتوجيه، وقد ترك هذا التوجيه إلى زعماء«الاسلام السياسي» وكان المقر والمنطلق هو بالطبع أماكن العبادة. ولقد اشتكى كثير من العاملين في التعليم في الخليج من ظاهرة المتعلمين بالشهادات الفارغة عقولهم من اي علم، خريجي بعض المعاهد الدراسية الغربية، وخصوصا الاميركيين، فهؤلاء عندما يسقطون في «شبكة» تسهل لهم المسكن والمأوى والرفقة والتثقيف الخاص بها، كما توفر لهم اطروحاتهم العلمية، واوراقهم الفصلية المطلوبة بوصفها جزءا من تأهيلهم العلمي، وفي بلاد مثل الولايات المتحدة يمكن شراء كل شيء فيها، اذ ان هذه الاوراق العلمية متوافرة إما على شبكة الانترنت او في غيرها من المصادر، ويسهل للطالب الادعاء بالمعرفة من جهة ومن جهة اخرى يفرغه ذلك للدعوة. ولم تتابع المؤسسات التعليمية الأميركية هذا الأمر لأنه لا يعنيها، فالطالب الأميركي عندما يهمل أو يغش في عمله العلمي، سيخرج إلى مجتمع لا يعترف بالورقة التي بين يديه أكثر مما يعترف بقدرته على الانجاز، فهو مجتمع تنافسي، البقاء فيه للأفضل، أو قل البقاء في الوظيفة أو العمل لمن هو قادر على الانجاز في الوقت التي تعتبر فيه «الورقة، الشهادة» في مجتمعاتنا هي الممر للوظيفة، بصرف النظر عن قدرة حاملها على الانجاز أو تأهله الشخصي. ويتكرر هذا الأمر على كل المستويات التعليمية، بما فيها شهادات الدكتوراه التي يحصل عليها من دون جهد علمي يذكر، يأتي المتخرجون بهذه الطرق وهم غير قادرين لا على الانجاز العلمي ولا الوظيفي، وبعضهم يتحول إلى دعاة ومن أوتي منهم الذكاء يتحول في تلفزيوناتنا إلى دعاة محدثين يخلطون بين أفكار الكتب «السيارة» في الاجتماع والتسويق والتحليل النفسي التي تباع بالملايين للعامة في الولايات المتحدة وبعض من تراثنا القديم، فترى بعضهم يحملق ويحوقل ويتفوه ببعض العبارات العامة، ويصبح داعية حديث، وهو كل ما تعلمه في سنين دراسته التي صرف فيها حياته الاجتماعية بين «الأكل» و«التجمع» لسماع النصائح، وهو محتضن في يد تلك الجماعات، من دون أن يمر بما يمر به طالب العلم عادة من معاناة في البحث، بل أصبح الوجود في أميركا في وقت ما الطريق الأسهل إلى افغانستان، من أجل «الجهاد» الذي يتشوق إليه الشباب في مثل هذه السن والخبرة. وبعض الدارسين من هؤلاء يتخرجون وهم يحملون ورقا فقط، من دون علم أو معرفة ولا حتى باللغة التي يتحدثها ذلك المجتمع الذي عاشوا فيه، لأنهم كانوا محميين من الاختلاط بذلك المجتمع في البيئات الحاضنة لهم، فيخسرون الدارين، فلا هم ساهموا في التنمية في بلدانهم التي ابتعثوا من أجل المساهمة فيها، ولا هم خدموا أنفسهم بالاطلاع على ما يحمله العالم من أفكار.
لذلك فليس غريبا أن نجد أن هذه الفئة بالذات التي أسيء استخدام غرض ابتعاثها إلى درجة سيئة هي الهدف الآن للمتابعة والتقصي من الأجهزة في الولايات المتحدة بعد أن تصادمت المصالح، فلم تكن المؤسسات الأميركية ترى من واجبها أن تفحص مؤسسات التعليم فيها، لأنها مؤسسات تجارية في الغالب، ولأنها غير معنية بهذا الأمر، فولي الأمر هو الذي يقرر أية مؤسسة تعليمية هي المناسبة لابنه أو ابنته وهو الذي يقوم بالمتابعة، كما أن المجتمع يقوم لاحقا بالتصفية والانتقاء لفعالية قانون العرض والطلب في بلادهم، أما طلابنا فكان يكفي أن يدخلوا على أهلهم بقصاصات ورق اسمها الشهادة حتى تنتفخ أوداج الأب المسكين ولا يعرف كم من الجهالة يحملها ابنه، ولأن الدولة تعتني بقصاصات الورق تلك بجانب عنايتها بالمنبت الاجتماعي، فيجد المحروس وظيفة تكفيه طول العمر.
بعض حاملي الشهادات العليا ليسوا باستثناء فكثير منهم مروا بطريق شراء الموضوعات لاطروحاتهم (المعروضة للبيع) من خلال تلك البيئات الحاضنة وحولهم عدم التنافس بعد ذلك من الثقة إلى الغرور، فأصبحوا غير نافعين لأنفسهم ولا لمجتمعهم.
الضرر السلبي يمكن تحمله، أما اذا تحول ذلك الضرر إلى الايجابي، كأن تتحول هذه التجمعات إلى أماكن لتفريخ الارهاب، فهو الضرر بعينه، لأن الولايات المتحدة اليوم تحولت من كونها الملجأ المرحب بطلابنا إلى مكان طارد، جمع في هذا الطرد الجاد وغير الجاد. فبسبب قانون أمن الحدود الجديد الذي أيده مجلس الشيوخ الأميركي بغالبية ساحقة (97 صوتا من دون أي صوت معارض) لا يحصل الطلبة العرب والخليجيون على تأشيرة الدخول من جديد إلى الولايات المتحدة لإكمال الفترة المتبقية من دراساتهم، والطلبة القادمون من 7 بلدان مدرجة على لائحة هذا القانون يخضعون لتمحيص وتدقيق استثنائي، وقد ترفض طلباتهم، أما من هم موجودون - قبلا - فإن خوفهم من عدم تجديد وعودهم يجعلهم يبقون في الولايات المتحدة ولا يعودون تحت أي ظرف بما فيه وفاة أحد عائليهم، في بلاد تحتضن حوالي نصف مليون طالب من العالم الثالث، بينهم بضعة مئات الآلاف من العرب، تصبح المشكلة عامة وجوهرية. أما برنامج «تبز» (خدمة معلومات منع الارهاب) الذي دخل إلى العمل في سبتمبر/أيلول الماضي، فهو برنامج يدعو الأميركيين إلى ابلاغ الشرطة المحلية عن أية شبهات (ارهابية) يتحسسونها!، ومواصفات هؤلاء الارهابيين في الغالب أربعة: عرب، مسلمون، طلبة وخليجيون في الغالب.
أمام هذه المشكلة التي لم يلتفت إليها أهل الحكم بعد، والتي تطرح من جديد قضية التعليم في مجتمعاتنا ومستقبل الأجيال الجديدة، يتلهى بعضنا بلعن الآخرين من دون أن نلزم قدرنا من المسئولية.
كاتب كويتي
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 100 - السبت 14 ديسمبر 2002م الموافق 09 شوال 1423هـ