كثيرة هي المواعظ والارشادات التي وردت في خطاب (محاضرة) وزير الخارجية الاميركي كولن باول عن الوضع العربي وانظمة الشرق الاوسط. وقليلة هي الوسائل العملية المطلوبة لإخراج الوضع من الراهن إلى مستقبل افضل. فالخطاب هو اقرب إلى الوصف منه إلى التحليل والتركيب. والوصف عادة هو قراءة في المشهد الخارجي من دون الدخول في آليات الازمة والاسباب التي أدت إلى ما هو الامر عليه الآن. فالآن هو مجموعة آنات تراكمت وتجمعت إلى ان انتجت مسألة نراها منتشرة في اكثر من مكان... ولكنها في النهاية ليست نتاج ساعات من الزمن بل هي محصلة تراكمات تتابعت زمنيا لسنوات عدة.
عموما، جاء الخطاب فكريا اقل من المستوى. فهناك قراءات عربية للحال العربية اكثر دقة وعمقا وهي معروفة ومنشورة ومنتشرة من المحيط إلى الخليج. المهم في الخطاب هو الجانب السياسي ودلالات توقيته عشية التحضير لتوجيه ضربة عسكرية ضد العراق يقال انها ستكون ضخمة وحاسمة تقلب الموازين وتعيد تشكيل الخريطة السياسية لمنطقة «الشرق الاوسط».
إلى الجانب السياسي هناك المسألة الثقافية (التربوية) التي اشير اليها للدلالة على اسباب انغلاق بعض الانظمة، وهذا البعض يعتبر تقليديا من انصار المعسكر الرأسمالي (الاميركي تحديدا).
السؤال: لماذا الآن؟ فالوصف ليس جديدا وهو إلى جانب ذلك قليل التفكير والتحليل والتركيب وادنى مستوى من عشرات الكتابات الفكرية والمنهجية التي نشرت منذ عقود. فالمسألة اذا سياسية ومقاصد الوصف هي خلخلة الاستقرار العربي في لحظة زمنية تنتظر فيها المنطقة حصول أمر خطير هو اقرب إلى الفاجعة. فالتقارير الاستراتيجية الصادرة عن مراكز البحوث والرصد في الولايات المتحدة تلمح إلى إمكان استخدام السلاح النووي في حال حصل هذا او ذاك. وتصريحات مثلث الشر (تشيني، رامسفيلد، ورايس) مضافا اليها تهديدات حليفهم ارييل شارون والاجنحة الاستيطانية العنصرية في الحكومة الاسرائيلية تشير إلى اتجاهات طاردة لأهل فلسطين وربما المنطقة المحيطة بها.
المسألة اذا سياسية وخطاب باول هو مجرد كلام ساذج يقال في لحظة سيئة وفترة متوترة وليست بريئة اطلاقا. فالتغيير هو مطلب الشعوب العربية منذ عقود، والولايات المتحدة كانت هي الطرف المانع لكل محاولة تغيير... وهي القوة المهيمنة التي ابطلت كل اتجاه تغييري جرى في طول المنطقة وعرضها. ويمكن القول ان سياسات واشنطن واستراتيجية اداراتها في لونيها الجمهوري والديمقراطي اسهمت في تثبيت ما تصفها الآن بـ «الانظمة المغلقة».
السؤال اذا: لماذا الآن؟ هذا لم يقله باول في خطابه (محاضرته) ولم يجب عنه. فهو «سر المهنة» أو الجانب المسكوت عنه. المسألة اذا سياسية ولها صلة بالاستراتيجية الدولية واختلاف توجهاتها وتحالفاتها وصداقاتها واساليب سيطرتها أو وسائل هيمنتها على مصادر الطاقة والقوة. الموضوع (مسألة التغيير) موصول باختلاف الاستراتيجية وليس باكتشاف طبيعة الانظمة العربية. طبيعة بعض تلك الانظمة تعرفها الولايات المتحدة منذ عقود، وهي راهنت عليها وتحالفت معها وساعدتها وبررتها وأعطتها كل وسائل القوة. فالجديد لا يتعلق بسؤال المعرفة بل باختلاف اسلوب السيطرة.
المسألة اذا تبدأ بتراجع الثقة واختلاف الاستراتيجية وظهور لغة عنصرية كارهة للعربي المسلم اخذت تسيطر على ادارة البيت الابيض. وهذه اللغة الطاردة للعربي والمسلم لا صديق لها في المنطقة ولا نصير سوى «اسرائيل» ومنظمات الاستيطان والاحزاب العنصرية التي تستغل موجة الحقد الاميركي ضد المنطقة.
المشكلة ليست في كلام باول، فهو في النهاية مجرد كلمات تقال ويقال غيرها. المشكلة في سذاجة الكلام وخفته وقلة تفكيره. وقلة التفكير تأتي دائما من قلة المعرفة وقلة الخبرة وقلة التعلم من تجارب التاريخ.
تستطيع الولايات المتحدة ان تفعل ما تريد عن طريق القوة والبطش واستخدام اسلحة الدمار الشامل... تستطيع ان تربح مئة حرب في مئة سنة ولكنها في النهاية لن تنتصر.
فالربح موازنة تعتمد على الحرب وطريقه التصنيع العسكري والهيمنة على آبار النفط، اما الانتصار فطريقه السياسة ومن دون حروب.
كل هذا الكلام الاميركي عن «الانظمة المغلقة» لا يعطي نتيجة بسيطة اذا استخدمت القوة وسياسات القتل والتدمير والتخريب والتخويف... بينما يعطي الكثير من طريق السياسة. تغيير بسيط في السياسة الاميركية إلى تعديل طفيف في استراتيجيتها المنحازة الى دولة «اسرائيل» يوفر عليها الحروب ويختزل الوقت ويعطيها اكثر مما تريده ادارة «البيت الابيض».
القوة لا تفيد والسياسة هي مدخل التعديل والتغيير. التدمير ربما يساعد في كسر «الانظمة المغلقة» لكنه سينتج المزيد من «الشعوب المغلقة» التي لن تدافع عن انظمتها ولكنها ستدافع عن تاريخها وثقافتها ومصالحها. القوة القاهرة لا تنتج سوى قوة مضادة. ومن لا يصدق فليجرب كما فعل غيره... وحصد الفشل
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 100 - السبت 14 ديسمبر 2002م الموافق 09 شوال 1423هـ