كثيرا ما يقال إن أهل البحرين أهل كرم وعطاء وبذل. واسمحوا لي إذا ما نقضت هذه القاعدة بحقيقة مُرة، إن الكرم أحيانا يتحول سذاجة، وبساطة خصوصا إذا أصبح هذا الكرم العشوائي بلا منطق وبلا موضوعية.
قد تزايد علينا منظمات حقوقية وأصوات ترتفع بين الحين والآخر مرتعبة خائفة من ان توضع في مربعات النزعة القومية أو النفرة الشوفينية كما لمحتُ ذلك في تصريحات بعض المتنفذين الرسميين عندما طالبته بأولوية المواطن في كل شيء، فليس من المنطق أبدا ان يفوق الآخرون البحريني في الحالات كلها وعلى المستويات جميعها انطلاقا من اننا عُرفنا (بالكرم) وبـ (الطيبة).
أية طيبة ان يبقى المواطن فقيرا ويصبح الضيف غنيا وفي سرعة ضوئية؟ قد تكون أحيانا شطارة وهذه ليست موضع كلامنا إنما كلامنا في ان يؤخذ بيده إلى حيث التأهيل المعيشي والاحتضان الوظيفي والحنان الإسكاني، والمواطن ينظر لا حول له ولا قوة بل مثقل بالفقر والإيجار وضعف الدخل وضبابية المستقبل.
تلك هي مشكلة البحرين رسميا وشعبيا، ان حمامة الحي لا تطرب، فرسميا مازلنا محل ابتلاءات مرضية مازالت تنخر في اقتصادنا تكمن في هدر الموازنة العامة في مشروعات تأهيلية وخدماتية تصب لصالح غير البحريني. أقول ذلك وأكرره لقطع الطريق على تلك البكائيات الممسرحة والمثالية والانتقائية أيضا التي لا تتحرك إنسانيتها إلا في بعض المواضع من دون أخرى.
ليس معنى ذلك القاء الأجانب في البحر فإن لهم حقوقا كفلتها المواثيق الدولية ولكن يجب ألا يقدموا على المواطن من دون حق وقانون، يجب ألا تفتح لهم الأرض والأعمال والمشروعات والخدمات بطريقة غير قانونية فتكون على حساب الأمن السياسي والاجتماعي والاقتصادي وحتى الأخلاقي.
هنا أدعو إلى سيادة القانون على الجميع فإن كان القانون يكفل ويعطي حق الجنسية لأي أجنبي فله الحق في ذلك وهذه نقطة طرحتها أكثر من مرة، هناك أناس يستحقون الجنسية البحرينية والاندماج في نسيجنا الاجتماعي فهذا ليس موضع خلاف، ولا يوجد دولة تستطيع القفز على استحقاقات الأجنبي في التجنس وقد تكون معرضة للمساءلة الدولية لما وقعت عليه من مواثيق دولية. ولكن كلامي هنا واستيائي عن ظاهرة «التجنيس العشوائي» غير القانوني المنفلت الذي يستبطن في أحشائه الوليد «البهريني» المشوه، فكما أصبحت البحرين ولسنين طوال تعاني من تسيب للعمالة السائبة (فري فيزا) أصبحنا نعاني من أزمة بطالة مركبة ومعقدة سببت تصادمات سياسية واحتقانات مجتمعية فأصبحنا أمام أزمة كبرى، كذلك الخوف بدأ يستقر في قلوب البحرينيين سنّة وشيعة ليس من المجنسين قانونيا وإنما من المجنسين عشوائيا فقد أصبح القلق يخيم على قلب كل بحريني بمن فيهم مسئولون في مواقع قيادية كبرى بل أصبح التعجب والاستغراب باديا في عيون كثير من الأجانب المراقبين.
في ظل الذكرى العالمية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان يتحتم علينا ان نطبق القانون بحذافيره فإن سيادة القانون الذي منه قانون الجنسية يجب ان يكون ضمن أولويات المسئولين القائمين على إدارة المواقع المتكفلة بذلك لكي تقي إداراتها من النقد الشعبي والمساءلة التاريخية وان يكون هناك ضابط قانوني في عدم توزيع الجنسية بطريقة عشوائية فيربك المجتمع ثقافيا وسياسيا واقتصاديا. ثقافيا لعدم الانسجام الثقافي وسياسيا مخافة ظهور الولاءات المضمرة والتي عادة ما تبرز عند المنعطفات التاريخية، ولقد شدني ذلك الموقف الذي رأيته في مباراة البحرين مع سورية ومع الأردن، إذ لحظ الجميع طريقة تعاطي الجمهور «البحريني» من أصل أردني وطريقة رفع شعاراته بحيث أقلقت الجميع. فلقد رأى المراقبون ذلك المشهد المأسوي من أداء الجمهور فكان الجمهور يهتف «بالروح بالدم نفديك يا صدام» «بالروح بالدم نفديك يا حسين» فقد يكون الشعار الثاني مبررا خصوصا لدعاة التبرير، أما الشعار الأول فهو مخيف خصوصا مع احتمال وقوع حرب أميركية على العراق يساهم فيها بعض العرب والأصدقاء للولايات المتحدة فتتكرر الأزمة التي مرت بها الكويت عندما تفاجأت ان الذين احتضنتهم وفي المواقع الحساسة كان ولاؤهم لصدام أكبر من ولائهم للجنسية والأرض والمسكن خصوصا انهم كانوا يشغلون مواقع حساسة.
إن الولاء للأرض يفرضه التاريخ والهم المشترك ووحدة الأهل والتراب والشعور بالقومية وغير ذلك، فالولاء لا يكون بقرار إداري أو بوثيقة قانونية، وذلك كله يظهر بجلاء ساعة الأزمات الكبرى والحروب وعند المنعطفات التاريخية، فالولاء لا يمكن ان يتجزأ خصوصا عند تعارض ولاءين لوطنين أصلي وفرعي. ليس ما أطرحه فكرا شوفينيا أو شعوبية للآخر بقدر ما هو معالجة لأي تسيب «قانوني» فالقانون قانون. فنحن هنا في مقام ترسيخ قوننة إعطاء الجنسية بطريقة مشرعنه لا مشخصنة توقعنا في مآزق عرقية مستقبلا فنقوم بإطفائها بالهبات والعطاءات والأقراص المهدئة خصوصا إذا كانت بلا قانون وبتذمر شعبي كبير.
لذلك نكرر... نحن لسنا ضد تجنيس مستحقي الجنسية وإنما ضد من يعطاها بغير حق فإن من يجمّلون القفز على القانون ويجمّلون قبح التجنيس العشوائي هم يسبحون ضد التيار الوطني بكل أطيافه وبكل طوائفه فهم كمن يوقد النار في ثوبه، وانهم لا يدركون حجم الطوفان ولا حجم النار المستعرة في قلوب الناس وهم يرون اللقمة وهي تنزع من فمهم، أكان هؤلاء المجملون وزراء أو وكلاء أو مديرين فمن يقفز على القانون فهو يسيء للقانون وللشعب وللوطن أيضا فلا حاميَ للوطن سوى القانون.
فإن كنا نحترم الدستور البحريني فيجب احترام القانون حتى لا نصبح كمن يؤمنون ببعض القانون ويكفرون ببعض، لهذا ونحن نحيي ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ينبغي ان نعمل على تأسيس دولة القانون والمؤسسات وان نمنح الحرية وجودها وان نسمح للصحافة بأن تقول كلمتها حتى لو كان برلماننا بلا أسنان أو بأسنان قابلة للسقوط أمام أول اختبار.
يجب ألا نضع العصابات على أعيننا فنقول أنْ لا تجاوزات على القانون، فالمشاهد اليومية تبطل الادعاءات كلها في ذلك، وان التسيب في منح الجنسية بلا قانون قد يضعنا جميعا أمام هزيمة مستقبلية وطنية يدفع البحرينيون كلهم ثمنها أمام الوطن وأمام كل العالم بما فيه المنظمات العالمية التي تحارب عدم مراعاة القانون في ذلك، ففي الوقت الذي تدفع فيه باتجاه إزالة ظواهر البدون أو منح الجنسيات مستحقيها فهي تراعي في ذلك كله - أيضا - توافر الشروط وإلا جاء ذلك على حساب المواطنين الأصليين وعلى حساب أمنهم الاقتصادي ومستقبلهم المعيشي والأمني.
فإنه عندما تسقط قلاع المواطنة الحقة يصبح من السهل على العدو اقتحام الحدود ويصبح من الصعب ضبط إيقاع ولاء المواطن الموسمي فهو «مواطن» يفكر في الأجر ويبقى همه كله في كيفية استغلال البقرة الحلوب لبناء مستقبله الاستثماري في وطنه الأصل، فإذا لم يكن مستحقا لها ولم يكن ذا أهلية حضارية وقانونية وعلمية أصيلة فإنه سرعان ما ينسى قيمتها المعنوية والحضارية خصوصا عند المنعطفات التاريخية، لأن الحب لا يأتي بمرسوم أو بمنح تأشيرة سفر أو وثيقة بقاء، لهذا ينبغي ان نراهن على خادمي الوطن والمجتمع وعلى تحقيق العدالة الاجتماعية التي بدأ تحقيق بعضها ونحتاج إلى زمن لتحقيق الوجوه الأخرى لها، هذا إذا ابتعدنا عن كل ما يربكها أو يسبب لها السكتة القلبية.
كان حكماء التاريخ كثيرا ما يكررون «عدل قائم خيرٌ من عطاء دائم» وكما يقول شامفور: «كن عادلا قبل ان تكون كريما فالضروريات تسبق الكماليات» فنحن عندما ابتدأنا بترسيخ عدالتنا في مجتمعنا البحريني وضعنا أرجلنا على الموقع الصحيح ولكن بعض الممارسات وبعض القوانين المفاجئة كقانون تأميم الصحافة وقانون «عفا الله عما سلف» وقانون «عذاري» في التجنيس العشوائي سبب لنا الكثير من الارباك والاحباطات، فالمواطن بهذا الاستغلال لقانون التجنيس أصبح مهددا في كل اقتصاداته، لقد أصبح محاصرا في أبسط الأمور المعيشية فهناك تسيب في استغلال النقل العام والمشترك لدى الأجانب وأصبح على حساب أصحاب سيارات الأجرة وعلى حساب تأمين قوتهم كما ورد في احتجاجاتهم وهذا هو بداية الغيث.
أصبح الأجانب ممن جنسوا بطريقة عشوائية يقاسمون الناس - وبالقفز على القانون - كل شيء حتى في تجارة الخراف وفي بيع الخضار هناك تجاوزات في فتح المتاجر وبيع العقارات. لقد فتحوا لهم مكاتب لتأجير السيارات ومكاتب لبيع السيارات المستعملة فهم يقومون بالتحميل في السوق المركزي وغيره وهكذا. نحن هنا ندعو إلى الرقابة القانونية حتى لا تعم الفوضى وهذا حق. فإن دخولهم سوق العمل يجب ان يكون وفق القانون، لا بالفوضى ولو كانت على حساب المواطنين. كما أننا ندعو إلى تأهيل المواطنين أولا وقبل الجميع اجتماعيا واقتصاديا، فمازال الكثير من المواطنين بلا مأوى وبلا عمل وبلا مستقبل على رغم ان الكثير منهم يمتلك الشهادات الأكاديمية فهو أولى بالسكن وبالعمل. فالناس مكثوا طويلا صامتين على أمل الحصول على مساكن لهم وأعمال، وإن أزمة التسعينات جاءت بسبب الوضع المعيشي، كما ان أزمة معان في الأردن وحماة في سورية جاء بعضها لأزمات اقتصادية، إذ يشعر المواطنون الأصليون هناك بارتفاع الخبز وبالفقر والحرمان المعيشي فمرت بلدانهم بأزمات سياسية خانقة.
علما بأن هذه الحوادث التي مرت بها هذه البلدان نتيجة الاختناق الاقتصادي كانت خالية من منافسة عناصر بشرية مستوطنة، وعلى رغم ذلك كانت كفيلة بأزمات وأزمات.
لذلك نحن بحاجة إلى إزالة أسباب الأزمات السياسية وان نمتلك الجرأة في حلها علميا وذلك لا يكون إلا بالمناقشة الحرة وبجرأة غمس الاصبع في الجرح بعيدا عن مباخر الإعلام والصحافة، فالتنمية والحرية تنتصر بالحقيقة المتكلمة وتموت بالحقيقة الخرساء، نحن نبحث عن علاقة قائمة على الشفافية فالنصوص لا تصنع الديمقراطية وإنما الذي يصنعها الممارسة والأداء، وأصدق أداء عندما يشعر المواطن بأولويته في كل القرارات المتخذة. وعودا على بدء نقول: إن الدول الغربية تعمل على تجنيس العقول لا البطون، وهذا هو أملنا في البحرين فإن العبقرية عندما تجنس تزيدنا عبقرية والجهل يزيدنا جهلا، هذا إذا كنا نبحث عن تجنيس أفراد لهم قابلية الانسجام مع المجتمع والا تحولوا إلى بؤر استيطانية وكانتونات معزولة بلا اجماع سياسي وتصبح مجتمعا مشوه الخلقة السياسية والاجتماعية والثقافية، وقد يكون سببا لإنتاج أزمات عرقية مفتوحة في المستقبل قد تأتي على الجميع فيصبح التاريخ مسائلا عما إذا كان وجودهم عندما كان القانون في إجازة
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 99 - الجمعة 13 ديسمبر 2002م الموافق 08 شوال 1423هـ