تشير الاستعدادات الأميركية العسكرية والسياسية والدبلوماسية، وبغض النظر عن جهود التفتيش الدولية المتواصلة إلى ان نذر الحرب على العراق والمنطقة من الصعب تجنب حدوثها وان تأخرت شهرين أو ثلاثة شهور عن الموعد المتوقع لنشوبها، والمناورات العسكرية في قطر ليس وحدها التي تحاكي الجاهزية الأميركية لشن تلك الحرب بعد أن ازداد عدد القوات الأميركية في المنطقة وعلى مقربة من العراق بما يزيد على ستين ألفا وهو مستمر في التزايد. وبدوره يعكس إيفاد المبعوثين الأميركيين المتواصل لعدد من الدول الأوروبية والآسيوية ودول المنطقة مؤشرات واضحة على اقتراب ساعة الصفر وبالتالي ضرورة وضع لمسات التخطيط النهائي للاستحقاقات والأدوار. وبدوره العمل الأميركي البريطاني المشترك لتوحيد صفوف المعارضة العراقية في الخارج ومحاولة تلميعها وتحرك هذه المعارضة باتجاه بعض الدول الإقليمية المحيطة بالعراق، كل ذلك يعطي مؤشرات إضافية إلى أن قطار الحرب يسير على سكته بانتظار ساعة الانطلاق.
بدورها المدركات الاستراتيجية، التي تداعب مخيلة الصقور من اليمين المحافظ الذي يتحكم في صنع السياسة الأميركية الراهنة، تحفز لتحقيق أهداف الحرب في العراق. فعلى مستوى رقعة الشطرنج العالمية، أميركا تريد أن تسيطر عسكريا على ما يسميه بريجنسكي منطقة «أوراسيا»، وهي المنطقة التي اعتاد المنظرون الاستراتيجيون الأميركيون المحدثون تسميتها «منطقة الشرق الأدنى الكبير»، وهي المنطقة الجامعة لشبه القارة الهندية وآسيا الوسطى والقوقاز والشرق الأوسط امتدادا للمغرب العربي. فالرؤية الاستراتيجية التي يتبناها هؤلاء الصقور تقول: ان السيطرة العسكرية على هذه المنطقة تجعل القرن الحادي والعشرين بكل حيزه الزمني قرنا أميركيا بلا منازع. واذا كانت حرب أفغانستان قد حسمت السيطرة العسكرية في آسيا الوسطى وإلى حد ما في شبه القارة الهندية، فان الحرب على العراق تمهد السبيل لتحقيق التواصل في هذه السيطرة العسكرية وتمددها.
وفيما يتعلق بمنطلقات الحرب على الارهاب، فان هذه الحرب تصبح حاجة أميركية في ضوء القناعة التي عملت المنظومة الفكرية والسياسية والاعلامية الأميركية على تكريس صناعة الاجماع عليها من قبل الرأي العام الأميركي، والقائمة على أن جذور الارهاب الذي انتج حوادث سبتمبر/أيلول تكمن في بنيان الأنظمة السياسية القائمة في الشرق الأوسط. وانطلاقا من هذه القناعة فالحاجة تبدو ماسة إلى إعادة انتاج نظم سياسية جديدة، وما تغيير النظام السياسي في العراق سوى المقدمة التي ستتبعها تغييرات دراماتيكية لنظم أخرى في المنطقة، بعضها ظل مصنفا تقليديا في عداد الحلفاء لأميركا.
بدورها الدواعي الصهيونية التي تغلغلت وترسبت في توجهات السياسة الأميركية إزاء المنطقة صارت تجنح نحو اعتبار خلق (اسرائيل) الكبرى مصلحة أميركية. وخلق ذلك يكمن في اعادة صوغ الخريطة الجيو - سياسية للمنطقة على أسس جديدة بعيدا عن خريطة سايكس بيكو، وفي مقدمة هذه الأسس اقامة «شريفية جديدة» ممتدة من غرب نهر الأردن حتى حدود إيران، يمكن أن توفر للدولة العبرية النقاء المنشود عبر ترانسفير يتيح توطينا فلسطينيا كبيرا في اطار هذه «الشريفية الجديدة».
والشهية للسيطرة على النفط العراقي الذي يمثل ثاني احتياط في العالم ليس أقل حفزا للانكباب عن شن هذه الحرب ولاسيما ان السيطرة على النفط لها مغرياتها لاعادة التدفق في الدورة الدموية للاقتصاد الأميركي التي أضحت تعاني من الاجهاد والتعب، فضلا عن المغريات التي يمثلها النفط في قيمته الاستراتيجية للتحكم في اقتصادات المنافسين والخصوم المحتملين لأميركا في الميدان العالمي.
اذن السلوك الأميركي والحشد العسكري الكثيف والمتزايد، يدلان على أن الحرب لم تعد بعيدة، وفضلا عن ذلك فان المدركات والدواعي والحوافز كلها تنبئ بحتمية الحرب على العراق التي لن تتوقف عند الحدود المعلنة المرتبطة بنزع الأسلحة أو حتى تغيير النظام في العراق، لأنها أساسا تنطوي على أهداف اقليمية ودولية أبعد بكثير من الحيز الجغرافي الذي يمكن أن يشهده زلزال تلك الحرب. وان ما كتبته الادارة الأميركية للمنطقة والتي سيكون مدخلها هذه الحرب مسألة لا رجوع عنها.
ولكن في المقابل هناك عدة عناصر تقف كابحة ومن الممكن أن تحول دون وقوعها (الحرب)، في المقدمة منها التيار الشعبي المتنامي داخل الولايات المتحدة المعادي للحرب على العراق، وخصوصا في ظل تردي الوضع الاقتصادي الأميركي. وتاليا تجد ادارة بوش من الصعب عليها أن تقنع الرأي العام الأميركي وكذلك الكثير من دول العالم بمبررات الحرب مادام المفتشون في العراق يمكنهم الذهاب ومن دون عوائق إلى أي مكان والتحقق مما موجود فيه. طبعا هناك ادراك متزايد بأن واشنطن تريد من المفتشين ليس مجرد التفتيش عن السلاح المحظور بقدر اعطائها مبررا للعمل العسكري ضد العراق، وفرضية قيام المفتشين بهذا الدور ربما احتاجت إلى شهور طويلة يبقى فيها المفتشون في العراق. ولكن أميركا تعرف أن تجاوز شهر ابريل/نيسان المقبل من دون تمكن المفتشين من توفير المبرر للعمل العسكري يعقد الأمور بالنسبة إلى شن تلك الحرب لجهة بدء الحر في المنطقة ومعه تبرز صعوبة ارتداء الجنود الأميركيين البزات الواقية وكذلك لأنه كلما مضى الوقت تخفت الحماسة للحرب لدى الجنود الأميركيين والبريطانيين الذين ينتشرون حاليا في المنطقة استعدادا لساعة الصفر.
وبالتأكيد هناك صعوبات أخرى يمكن أن تشكل كوابح لهذه الحرب التي تبدو حتمية. منها الممانعة والتردد الاقليمي ولاسيما من قبل تركيا والسعودية ومصر وسورية خصوصا. ولكن الأهم من هذه الصعوبة بالنسبة إلى واشنطن هو تصاعد العداء العالمي لكل ما هو أميركي. وبالتالي فان شن هذه الحرب من دون تغطية دولية ومن مجلس الأمن وعلى قدر كبير من توفير الاجماع العالمي، فانها (أي هذه الحرب) ستزيد من حال العداء العالمي لأميركا ويمكن أن تفجر نزاعات متعددة الأبعاد ضدها لن تجني من ورائها سوى الدموع.
فضلا عن الصعوبات ذات الطابع اللوجستي، وسبق لمعهد بروكنغز أن نظم «لعبة حرب» لصالح البنتاغون كلفته 300 مليون دولار، وكانت من أهم نتائج هذه اللعبة مخالفتها أماني صقور اليمين الأميركي الجديد، وأهم هذه النتائج أن القوات الأميركية لن تستطيع السيطرة على العمليات داخل العراق. وأن الغزو سيؤدي إلى نحو من 3000 إلى 5000 قتيل بين صفوف القوات الغازية وعدة أضعاف بين صفوف المدنيين العراقيين. فضلا عن الكلفة المادية لهذه الحرب التي ستكون بحدود 300 مليار وإذا استمر وجود القوات الأميركي في العراق عدة سنوات فيمكن أن ترتفع الكلفة إلى ترليون دولار. ويشكك (توماس فريدمان) في امكان استخدام النفط العراقي لتغطية التكاليف، وعلى الرئيس، بحسب فريدمان، أن يطرح ذلك على الشعب الأميركي.
وبناء على ذلك، ووفق بعض التقارير التي تم تسريبها إلى الصحافة الأميركية الدورية المتخصصة، فان مجلس الأمن القومي الأميركي أوصى بالعودة إلى سياسة الثالوث الأميركي في التعامل مع العراق أي «التفتيش، وحظر الطيران والاحتواء»... مع العمل بالوسائل الاستخباراتية لتغيير النظام السياسي من دون حرب تتطلب الغزو الواسع النطاق
العدد 99 - الجمعة 13 ديسمبر 2002م الموافق 08 شوال 1423هـ