العدد 98 - الخميس 12 ديسمبر 2002م الموافق 07 شوال 1423هـ

الديمقراطية وصراع الأصوليات المتطرفة!

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

يصعب علينا ترديد ما تقدمه بعض التيارات من أن العالم يخوض الآن حربا دينية، بين المسيحية والإسلام، فذلك - حتى الآن على الأقل - يحمل من المبالغة الشيء الكثير... لكننا في الواقع نعيش مرحلة أخرى، هي مرحلة صراع الأصوليات المتطرفة شرقا وغربا، ونعني أنه في مقابل ما يسمى بالأصولية الإسلامية المتطرفة، التي تعرف في دوائر كثيرة بـ «الإسلام الجهادي» المسلح، ويمثلها أساسا أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة وما يماثله من تنظيمات متطرفة، فإن هناك أصولية مسيحية متطرفة تصعد بقوة في العام الغربي، وتقودها أساسا تيارات وشخصيات إنجيلية في أميركا، تعلن العداء للإسلام والمسلمين وتثير الكراهية ضدهم بشكل حاد، وتدفع الادارة الأميركية ودوائر صنع القرار، بل والرأي العام، نحو الحرب العسكرية ذات الدعاوى الدينية.

والخطورة أن تنامي هذه الروح المتشددة والمتعصبة دينيا على الناحيتين سيؤدي بالضرورة إلى صدام أكثر حدة في المستقبل، يوصل في النهاية إلى حرب دينية فعلا، إن لم يتم تدارك الأمور بحكمة وتسامح متبادل، لكننا نعتقد أن الخطر الأعظم يكمن في أن صراع الأصوليات المتعصبة بهذا الشكل، سيصيب الآن وفورا، جهود التطوير الديمقراطي المأمول في عالمنا، ويعرقل خطوات التحديث والانفتاح الثقافي والسياسي، الذي نسعى إليه، والذي تدّعي أميركا أنها تريد فرضه علينا فرضا.

والحاصل أن أميركا القوة الأعظم المنفردة، تصدر للعالم اليوم، منتجات جديدة، ذات بريق وجاذبية مرغوبة عند البعض، وعلى النقيض مكروهة عند البعض الآخر، لكنها في الحالين تبدو هي صاحبة القول الفصل، في إجبار المستهلكين على قبول هذه المنتجات!!

فبعدما غزت أميركا العالم طوال السنوات الماضية بصرعات مختلفة، من ملابس «الجينز» والمأكولات السريعة وموسيقى البوب وأفلام العنف والقوة وآليات السوق، ها هي الآن تركز على تصدير «المنتج الديمقراطي» قيمة من قيم المجتمع الأميركي، الذي بات يؤمن بأنه مفوض من قبل الله بنشر هذه القيم في العالم حتى بالقوة العسكرية وقهر إرادة الشعوب الأخرى، وفرض الديمقراطية «الأميركية»، فرضا، بصرف النظر عن اختلاف الظروف والأوضاع، كما حاولت أن تفعل في أفغانستان بعد تدمير نظام طالبان المنغلق المتشدد بالقوة العسكرية الباطشة، وكما تحاول أن تفعل في العراق، إذا ما شنت الحرب عليه واسقطت النظام الحاكم واحتلت البلاد، ثم تكر المسبحة في أرجاء الوطن العربي والعالم الاسلامي كله، فالكل موضوع على القائمة!

ومثل هذه السياسات المعلنة، تلقى القبول بل الحماس من قِبَل المجتمع الأميركي، وحتى من التيارات، المحافظة فيه، باعتبارها تعبر عن قيمة سياسية وأخلاقية ثقافية أميركية، تكتسب طابعا دينيا، وموجهة لشعوب خارجة عن طاعة الرب، منغمسة في التخلف والتعصب وصولا للارهاب وقتل الآخرين باسم انه آخر.

أما المنتج الثاني الذي تصدره أميركا الآن للعالم، فهو منتج «الحرب العادلة» ضد الارهاب، بما تحمله أيضا من مسحة دينية أخلاقية، تخفي أهدافا سياسية استعمارية أعمق، وبما تحمله كذلك من انتشار روح الزهو بالقدرة العسكرية الباطشة التي تستطيع بها أميركا هزيمة كل أعدائها في كل زمان ومكان.

وهذا أمر يلقى هو الآخر تأييدا كاسحا داخل المجتمع الأميركي، وخصوصا من جانب التيارات السياسية والدينية المحافظة التي صعدت أخيرا على السطح وأثرت في القرار عند القمة الحاكمة، كما أثرت على الوعي العام عند القواعد الجماهيرية، بفضل وسائل الاعلام الجبارة، رغم التناقض الحاد بين الدعوة للديمقراطية كقيمة انسانية تطلق حريات الناس وتصون حقوقهم، وبين تشجيع الروح العسكرية المغامرة المندفعة لغزو العالم وفرض الأمر الواقع الاستعماري من جديد، ثم بين محاربة الارهاب تخليصا للعالم من شروره على كل الجبهات، وبين استغلال سلاح محاربة الارهاب لقهر الشعوب وغزو واحتلال أوطانها وكسر إرادتها وعرقلة تطورها.

ومن جميع ذلك نستطيع أن نستنتج أن «الأصولية الأميركية» بجانبيها السياسي والعسكري والديني الأخلاقي، هي التي تقف وراء هذه السياسات المعلنة، وتحرض أصحاب القرار على خوض مغامراتهم الآن قبل الغد، على نحو ما ترى من استعجال غزو العراق مثلا، تمهيدا للانتقال إلى دول أخرى تقع تحت مقصلة الاتهام، بحجة قهر الأشرار دفاعا عن الأخيار، ونشر الديمقراطية بديلا للدكتاتورية، «وإعلاء كلمة الله الذي يقف معنا، مع الحق في هذا الصراع الديني الذي نخوضه، ويحيطنا بعنايته» طبقا لكلام القس الانجيلي الأميركي المتطرف بات تسون، أحد أقوى الأصوات الأصولية المتعصبة في أميركا، جنبا إلى جنب مع أقرانه وزملائه فرانكلين جراهام، وجيمي سواجرت، وجيري فالويل، وكلهم وصفوا الاسلام دينا بأحط الأوصاف، وأدانوا المسلمين بشرا مؤمنين بأبشع الاتهامات! هذه إذن هي بعض ملامح الأصولية الأميركية المتطرفة الصاعدة بقوة.

فإن كانت هذه الملامح وتلك الأفكار المتطرفة، تجهض السعي الأميركي لاجراء اصلاحات ديمقراطية في عالمنا، وتسقط حججها وذرائعها، فإن لدينا نحن أيضا من يفعل ذلك بذات الحماس والتطرف، فيقدم للمغامر المتعصب الأميركي غطاء لمغامراته وذريعة لغزوه ومبررا جاهزا لاستخدام القوة العسكرية لتغيير أوضاعنا، طالما لم نغيرها بأيدينا... وهذا هو أخطر المآزق المفروضة علينا من جانب الطرفين، وكأنهما قد اتفقا ضدنا حتى والحرب دائرة بينهما!

وبصرف النظر عن هذا الفصيل المدموغ بالارهاب والعنف المسلح، فإننا نستطيع أن نرصد ثلاثة تيارات على الأقل تشتبك مع الطرح الأميركي أي - ثنائية فرض الديمقراطية واستخدام القوة العسكرية الباطشة - وترى أن الأوان قد آن بالفعل لتغيير أوضاع العرب والمسلمين الذي يشكلون خمس سكان العالم.

- تيار يرى الخضوع والاستسلام الكلي للطرح الأميركي الذي لا يقاوم، لأنه يرى فيه فوائد جمة أهمها، أولا التخلص من جموح الأصولية المتطرفة والقضاء على الارهاب المسلح، وثانيا التخلص من نظم حكم جائرة فشلت كل محاولات اصلاحها وتقويمها ودفعها للتطوير الديمقراطي، وثالثا الاسراع بركوب العربة الأخيرة من القطار الأميركي المنطلق بلا قدرة للآخرين في العالم على اللحاق به.

- على النقيض هناك تيار آخر، يرى الرفض الكلي للمنظومة الأميركية المطروحة علينا، لأنها تعبر عن هيمنة جديدة لامبريالية صليبية غربية الطابع أميركية القيادة.

وأملا في المقاومة يتخندق هذا التيار وراء الدين تارة ووراء القومية تارة أخرى، وصولا للإمعان في الانغلاق، بل وصولا أحيانا للتطرف وتبرير الارهاب رفضا للخضوع، ربما تقليدا لما تفعله إسرائيل، التي تسوغ الارهاب ضد الفلسطينيين بكل المسوغات، التي أصبحت للأسف مقبولة في قطاعات غربية مهمة، وخصوصا من جانب الأصولية السياسية الدينية الأميركية.

- وكالعادة يقف تيار ثالث في المنتصف، يريد الديمقراطية ويؤيد القضاء على الارهاب في اطار منظومة دولية، وليس في إطار هيمنة أميركية منفردة وطاغية، تمحو هويات الشعوب وتستأصل ثقافاتها وأديانها وقيمها الاجتماعية والأخلاقية، بجرة قلم - عفوا - بطلقة مدفع!

ولعلنا نقول للأسف فإن هذا التيار الأخير على رغم أنه يمثل في تصوري الغالبية العظمى، إلا أنه يطرح في هذه الظروف العصيبة، طرحا حالما وإن كان مشروعا وصادقا، لأنه يرفض الامبريالية الأميركية المندفعة والمتهورة، المتخفية وراء «أصولية متشددة» ذات أسنان عسكرية طائشة من ناحية، وذات مخلب ديني وثقافي سياسي من ناحية أخرى، وكلاهما من نتاج «عصبة أصولية» نمت أخيرا في أميركا، وخصوصا بين الايفانجيليين، وتسعى بقوة لفرض رؤيتها التبشيرية، ليس على المسلمين فقط، بل وعلى المسيحيين الآخرين، لإعادة الجميع إلى الايمان الحقيقي، حتى بقوة السلاح:

وخطر هؤلاء وتعصبهم لا يقل بحال عن خطر وتعصب من لدينا.

ويقينا فإن دعاوى كل هؤلاء على الناحيتين - لن تصلح أحوالنا، ولن تساعدنا في حل مشكلاتنا ولن توفر لنا الخبز والحرية، إنما على العكس فإنهما معا قد أوقعانا في مآزق كثيرة، تراكمت خلالها الأزمات، وتعرقل الاصلاح الديمقراطي وتآكلت الحريات بدرجة مخيفة!

فإن كنا نرفض هذه الهجمة الأصولية الأميركية، لأنها خطر علينا وعلى العالم كله، فإننا وبالقوة نفسها نرفض الوقوع في براثن أصوليات متطرفة جربنا حدتها من قبل ولازلنا نكتوي بنارها الحارقة، حين نمت في تربتنا واشتوت علينا بقسوة دامية وتطرف وغلو، نهى عنه صحيح الاسلام وشهامة العروبة وقيم الاجتهاد العقلي وحرية الرأي واستنارة الفكر!

ولذك فإن محاولة زجنا في «صراع أصوليات» كما يحلو لكثير من المثقفين العرب والأميركيين تسميته، هي محاولة تهدف إلى جرنا إلى صراع محكوم علينا فيه بالخسران، ليس فقط بحكم توازن القوى الذي يميل بالضرورة لصالح أميركا والغرب، ولكن أيضا لأن قيمنا الدينية والثقافية والاجتماعية، تنهى عن التعصب والتطرف، وتعرف الأصولية الحقة بأنها العودة لأصول الدين، وليست الانحدار إلى ممارسة العنف والارهاب.

ناهيك عن أنه يشتت جهودنا الضرورية لاصلاح أحوالنا جذريا، وفق منهج سياسي فكري اجتماعي متكامل ومستنير، يعيد بناء الانسان وصوغ المجتمع وانتخاب مؤسسات الحكم بطريقة ديمقراطية نظيفة ودقيقة، الأمر الذي نلخصه بكلمتي الاصلاح الديمقراطي، ذلك الأمل الذي نسعى لتحقيقه...

وأظن أنه من الشجاعة أن نعترف بقصورنا الذاتي في هذا الموضوع، حين قدمنا للأصوليات المتعصبة المتصارعة - المسيحية الغربية الأمريكية من ناحية، والأصولية الاسلامية العربية من ناحية أخرى - وقودا لمعركة غير ذات معنى ايجابي، ومددا لبدء حروب دينية لا تخدم مؤمنا أو غير مؤمن.

وحين تقاعسنا عن محاربة الفقر والتخلف المولد للاحباط والتطرف، وحين استسلمنا لنظم قهرت اردتنا وفشلت في التعامل مع أبسط متغيرات العصر وتطورات الحضارة، وحين تركنا ثقافة التعصب والتمييز ضد الآخرين، بمن فيهم المرأة والأقليات الدينية والعرقية، تترسخ في الأذهان، بلا تقويم وتصحيح، وأخيرا حين فشلنا في الاطلال على الثقافات والحضارات الأخرى بوجه ديمقراطي مستنير ومتسامح، تعبيرا عن انسان يأكل ويفكر ويعمل بحرية غير مرتعشة في مجتمع مستقر آمن منتج...

ولقد بات حتميا أن نسرع باصلاح كل ذلك من الجذور، قبل أن يفرض علينا الاصلاح وفق رؤى ومخططات الأصولية الأميركية الهاجمة بلارحمة، فنحن الأحق بالاصلاح وبالديمقراطية، وبإعلاء قيم الحق والعدل والحرية

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 98 - الخميس 12 ديسمبر 2002م الموافق 07 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً