العدد 98 - الخميس 12 ديسمبر 2002م الموافق 07 شوال 1423هـ

جنون الأقوياء

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

حادث اعتراض السفينة الكورية الشمالية المبحرة إلى اليمن و«اللغط» الأميركي عن محتوياتها كشف عن لغة سياسية مطاطة لا يُعرف الكلام الصحيح منها من الخطأ. بدأ الكلام في الصباح عن وجود صواريخ سكاد متطورة ومواد كيماوية خطيرة وغريبة النوع والشكل. وترافق الكلام مع معلومات واستنتاجات عن مخالفة الشحنة للقرارات الدولية وتهديدها للأمن والاستقرار في المنطقة... وان الخبراء يفحصون المعدات وعينة من المواد المرسلة في حاويات، وانهم وجدوا فيها أسلحة معقدة ورؤوسا شديدة الانفجار وقوية التدمير... وأن... وأن... إلى آخره من الكلام الذي يشير إلى أمر مهم وخطير قد يستدرج «التحالف الدولي» لمكافحة «الارهاب» إلى نوع من المواجهة في حال ثبت انها مرسلة إلى العراق أو دولة موضوعة في لائحة «الدول المارقة» أو «محور الشر».

هذا كلام الصباح، كلام الليل اختلف. اتصل الرئيس اليمني بنائب رئيس الولايات المتحدة وأوضح له طبيعة الشحنة وقانونيتها وانها تخص اليمن ولا دخل للدول المعنية بالحملة الأميركية على «الارهاب» بها.

بعد الاتصال الهاتفي اختفى كلام الصباح، وأعطى الرئيس الأميركي توجيهاته بالإفراج عن السفينة المحتجزة وإطلاق سراحها وتركها تتوجه إلى مكانها: اليمن.

اختلف كلام الليل عن الصباح وغابت كل تلك المعلومات الخطيرة عن السلاح الخطير واختفت التهديدات ولم تعد تلك الصواريخ متطورة ومعقدة تكنولوجيا، ولم تعد تلك المواد الكيماوية (العجيبة الغريبة) عجيبة غريبة. فهي الآن عادية، والمعدات عادية وقانونية، ومصرح بها، ومتفق عليها.

السبب في اختلاف لغة الصباح عن الليل ما قالته مصادر البيت الأبيض. اليمن من الدول الصديقة، ومن البلدان المتعاونة في مكافحة «الارهاب» واليمن نريده كما قالت التصريحات الأميركية إلى جانبنا في الحرب التي نعد لها العدة ونجهز لها كل الأدوات... ومن بين تلك الأدوات توسيع قاعدة «التحالف الدولي» وكسب أكبر كمية من الحلفاء والأصدقاء لمواجهة تداعيات حرب يقال إنها ستقع في غضون الأسابيع العشرة المقبلة.

ليس المهم تناقض اللغة بين الصباح والمساء ولا تعارض المعلومات من مواد خطيرة وغريبة إلى شحنة عادية وقانونية. هذه اللغة لم تعد جديدة. الجديد هو ذاك الحماس الذي أربك برودة العقل ودفعه لإطلاق سلسلة تصريحات (كلمات) متوترة وأقرب إلى الجنون... وأسوأ حالات الجنون حين يصل مرتبة يبدأ المجنون يفاخر بعقله! عند هذه الدرجة يبلغ الجنون حد الخطر لا على نفسه بل على غيره ومحيطه.

وفي المثال الأميركي تصبح درجة الجنون من أخطر المستويات لأن الولايات المتحدة دولة منتشرة في معظم أنحاء العالم وخطرها ليس محصورا في بيئة محددة تؤثر على محيط جغرافي معين بل هي «امبراطورية» وصلت إلى درجة من الانتفاخ العضلي (العسكري) وبلغت ثقتها بنفسها مرتبة عليا لا ترى أمامها من منافس يضع حدا لتمددها العشوائي.

سابقا كان الخطر السياسي يمكن كبحه بتوازن القوى الدولية أو توازن الرعب بين المراكز الرئيسية في العالم. الآن خسر العالم توازنه (عقله) ولم تعد القوى تنظر إلى نفسها من خلال قوى غيرها بل أصبح العالم أسير قوة واحدة تقيس نفسها بمثالها لا بغيرها. وهذا هو الخطر بعينه.

سابقا كان الخوف يبدأ حين تقوم دولة اقليمية بالتحدث عن ذاتها وكأنها دولة كبرى وتصدق ما تقوله وتتجه نحو لعب أدوار أكبر من حجمها وقدراتها. الآن انقلب المسرح وبدأ العالم يسمع لغة من دولة عظمى تفكر باعتبارها دولة اقليمية صغيرة وتتحدث الكلام نفسه الذي يصدر عادة عن دول صغيرة لا معنى لها في السياسة أو الاقتصاد أو الحروب.

المشكلة ليست في السفينة الكورية الشمالية المشكلة في «سفينة العقل». فحين يصل العقل إلى درجة الهذيان وتصبح لغته «مخربطة» بين الصباح والليل... فهذا يعني في أضعف الإيمان ان العقل بلغت حرارته درجة الغليان، وفي أكثره ان العقل أصيب بالجنون.

وأخطر حالات الجنون... جنون الأقوياء والمستكبرين

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 98 - الخميس 12 ديسمبر 2002م الموافق 07 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً