يمثل الاسلاميون أهم وأكبر وأوسع القوى السياسية تأثيرا في مصر. وليس هذا بالتطور الجديد في الحياة المصرية، ففيما عدا سنوات قليلة استطاع خلالها عبدالناصر ايقاع الاضطراب وفقدان التوازن في صفوف الاسلاميين المصريين والعرب برفعه راية الوحدة ومناهضة النفوذ الإمبريالي، فإن مصر عبرت عن نفسها طوال معظم سنوات القرن العشرين تعبيرا عربيا - اسلاميا. ولكن العلاقة بين حركة الإخوان المسلمين، كبرى قوى الاسلام السياسي في مصر، والدولة كانت دائما علاقة يشوبها القلق والشك، وأحيانا الصراع المكشوف.
وهو نمط لم يسم علاقة الاخوان بالنظام الجمهوري فحسب، بل استقر منذ نهاية الثلاثينات في ذروة عهد الملك فاروق حين بدا واضحا أن الإخوان المسلمين ليسوا ظاهرة عابرة بل تيار ثقافي واجتماعي وقوة سياسية ذات اعتبار. ولكن العلاقة بين الطرفين تفاقمت إلى حد كبير منذ ولادة النظام الجمهوري. أولا، لأن الصراع على هوية الجمهورية وقيادتها أدى إلى تفجير مبكر ودموي بين الاخوان والنظام الثوري الجديد. ثانيا، لأن النظام ذهب بعيدا في حملة القمع ضد الاخوان خلال الخمسينات والستينات. وثالثا، لأن تبني بعض القوى الإسلامية لنهج الانقلاب ووسائل العنف خلال السبعينات والتسعينات ترك أثره على مجمل علاقة الدولة المصرية بالإسلام السياسي.
اليوم، ثمة متغيرات مهمة في الوضع السياسي المصري الداخلي، في التوجهات السياسية للإسلاميين المصريين، وفي الوضع المصري الإقليمي والدولي، تستوجب إعادة نظر تاريخية في العلاقة بين الدولة المصرية والإسلاميين. طوال ربع القرن الماضي، ومنذ عادت التعددية السياسية إلى الحياة المصرية، والدولة تحاول بشتى السبل إقامة وتعزيز نفوذ حزب سياسي رئيسي في البلاد، حزب يتحكم بمركز الثقل السياسي في البلاد ويقوم بمهمات قاعدة النظام والمجرى لعلاقته بالقاعدة الشعبية. هذه المحاولات فشلت جميعا، وما تولي جمال مبارك ومجموعته لمراكز القيادة الفعلية في الحزب الوطني ومحاولاتهم الجاهدة إعادة بنائه من جديد إلا اعترافا بفشل هذه المحاولات. من السذاجة القول إن الحزب الوطني هو مجرد تنظيم سياسي شكلي لا وزن له، ففي مصر كان للدولة ومازال وزن وتأثير كبيران يفوقان وزن وتأثير أية دولة حديثة في المشرق العربي. وليس هناك من شك في أن ارتباط الحزب الوطني بالدولة يضفي عليه قدرا لا يستهان به من الشرعية والنفوذ. ولكن ما يسترعي النظر أن وظيفة الحزب السياسي الحديث هي أن يعزز شرعية الدولة ونفوذها لا أن يقترض منها الشرعية والنفوذ. والأهم بالطبع أن تسيير الأمور على أساس أن الإسلام السياسي في مصر غير موجود أو أن بالإمكان إقامة حياة سياسية صحية من دون دور نشط وفعال له، هو أقرب إلى عمل النعامة مضرب المثل. المعارضة السياسية (كما الولاء السياسي) هي جزء لا يتجزأ من شرعية الدولة، وإعادة الاعتبار إلى التيار الإسلامي السياسي في مصر سيعزز من شرعية الدولة ومن قدرتها على مواجهة المخاطر، بدلا من الاعتماد الكامل على حزب يبدو أنه عالة على الدولة أكثر منه عونا لها. ما يسوغ هذه المراجعة ويجعلها أكثر إلحاحا أن التيار السياسي الإسلامي قد تغير هو الآخر وأن المخاطر التي تواجه مصر آخذة في الازدياد.
ليس ثمة من دولة عربية (وربما حتى إسلامية) تعيش اليوم استقرارا داخليا أكثر من مصر، على رغم المصاعب الاقتصادية المتفاقمة. فالعنف الذي أصاب الحياة المصرية بالتوتر والاستقطاب خلال التسعينات قد زال، وبالنظر إلى طبيعة القوى التي مارسته، إلى نتائجه السياسية والشعبية، وإلى المراجعة الفكرية التي صاحبت نهايته، يمكن القول إن ليس هناك من احتمال لعودة العنف السياسي إلى الحياة المصرية لعدة عقود مقبلة على الأقل. من ناحية أخرى، يدرك القطاع الأوسع من الاسلاميين المصريين أن هدف الاستيلاء على الدولة، حتى بالوسائل الديمقراطية، هو هدف غير واقعي، يفتقد إلى كثير من المعنى في عصر يستدعي مراجعة عميقة لكل برنامج «أسلمة الدولة». وفي حقبة تتسم بمواجهة كونية متفاقمة بين الولايات المتحدة ومختلف تجليات الإسلام السياسي.
يدرك الاخوان المسلمون، وغالبية التيارات الإسلامية المصرية، أن «أسلمة الدولة» هو على أفضل الأحوال هدف بعيد المدى، وأن الثقافة والقيم وأنماط الاجتماع واعادة التماسك إلى المجتمع وصلابة السياسات العربية والإسلامية الخارجية، وليس مؤسسة الدولة بحد ذاتها، هي محل التدافع. وقد أثبت الاخوان المسلمون منذ منتصف السبعينات، وقد توالى على قيادتهم مرشدان خلال هذه الفترة، أنهم ليسوا قوة رئيسية فحسب، بل قوة ذات توجه سياسي متزن ومحسوب، صلب في التزامه النهج السلمي، وعلى إدراك عميق بوزن مصر وحاجاتها الاستراتيجية وشروط تماسكها الوطني. خلال فترة انفجار العنف الذي رافق اغتيال الرئيس السابق أنور السادات لم تثر ولو حتى شبهة واحدة حول الاخوان، وفي حرب الخليج الأولى لم يخرج الموقف الاخواني كثيرا عن موقف الدولة. فيما يتعلق بفلسطين والسياسية المصرية العربية، دعم الاخوان التوجه الرسمي بلا حدود وهو يتحرر شيئا فشيئا من وطأة الميراث الساداتي. وحتى فيما يتعلق بالعلاقات المصرية مع إيران والسودان، الدولتين صاحبتي التوجه الإسلامي، تبلور الموقف الاخواني في ظل الموقف الرسمي. ولا يخفى أن الاخوان وطوال امتحان سنوات التسعينات المريرة قد التزموا موقفا لا يساوم في مواجهة عنف الجماعات الإسلامية.
في كل مناسبة لوفاة مرشد الإخوان المسلمين وإعلانه تولي مرشد جديد تثار علاقة الإسلاميين المصريين بالدولة وإشكالية موقعهم في الحياة السياسية. وفاة المرحوم مصطفى مشهور وتولي المستشار الهضيبي قيادة الإخوان أثارت الجدل من جديد حول هذا الشأن الذي مازال معلقا في تاريخ مصر الحديث. ولكن الأمور هذه المرة تختلف، تختلف لأن ما يستدعي النقاش ليس فقط المتغيرات الجوهرية في توجه وسياسيات الاخوان خلال العقدين أو الثلاثة الماضية، بل أيضا الظروف الموضوعية التي تحيط بمصر والعرب والمسلمين، والتحولات في السياسة الأميركية تجاه المنطقة.
تعود بدايات هذه الحقبة في العلاقات المصرية - الأميركية إلى ما قبل حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، أو تحديدا عندما اتخذ الرئيس أنور السادات قرار طرد الخبراء السوفيات، معطيا بذلك أولى الإشارات المهمة إلى نيته اجراء تغيير جوهري في تحالفات مصر الدولية. أصبحت هذه الإشارات واقعا فعليا خلال عملية التفاوض المصري - الإسرائيلي الطويل الذي أعقب حرب أكتوبر، وهي المفاوضات التي لعبت فيها الولايات المتحدة الدور الرئيسي، بل الدور المنفرد. ما ان انتهت الحقبة الساداتية حتى كانت مصر قد خرجت تماما من دائرة النفوذ السوفياتي وارتبطت ارتباطا وثيقا بالولايات المتحدة وعلى الأصعدة كافة، السياسية، والاستراتيجية، والاقتصادية، والثقافية. وقد تعزز هذا الارتباط، ووصل إلى مستوى أعلى، بمشاركة مصر في حرب الخليج الأولى وبالدور المهم الذي لعبته في معارضة السياسة العراقية وفي اضفاء الشرعية على الحرب الأميركية - الدولية التي أدت إلى اخراج العراق من الكويت.
لم تكن العلاقة بين القاهرة وواشنطن علاقة تبعية، بل علاقة تبادل مصالح على الأقل من وجهة نظر القيادة المصرية. وطوال سنوات هذه العلاقة بنيت السياسة الأميركية في المنطقة على أساس النظر إلى مصر باعتبارها قوة اقليمية رئيسية لابد أن تؤخذ حاجاتها الاستراتيجية وتوجهاتها ووزنها في الاعتبار. القاهرة من ناحيتها، وعلى رغم حرصها على عدم الاصطدام بالسياسة الأميركية، لم تتردد في مناسبات عدة، وعند الحاجة إلى ذلك، عن الاعراب عن اختلافها مع هذه السياسة وتصرفت على أساس من ذلك، سواء فيما يتعلق بالمسألة الفلسطينية، أو بالتهديدات التي واجهتها سورية وحزب الله ولبنان، أو بالسياسة الأميركية تجاه عدم انتشار السلاح النووي في الشرق الأوسط، أو مشروع التطبيع الشامل مع الدولة العبرية، أو حتى فيما يتعلق بعودة العراق إلى الساحة العربية.
بيد أن المؤشرات في تزايد على أن العلاقة بين القاهرة وواشنطن توشك على الانتقال إلى مرحلة جديدة، مرحلة تتسع فيها دائرة الاختلاف عن دائرة الاتفاق والتفاهم. أولى المؤشرات تتعلق بتغيير تدريجي في السياسة الأميركية تجاه مصر والمنطقة يؤدي إلى تحرير هذه السياسة من التعامل مع مصر باعتبارها قوة اقليمية رئيسية بل مجرد دولة صديقة، دولة باتت تثير من المشكلات للنفوذ الأميركي أكثر مما تضيف إيجابا إليه. تمضي الولايات المتحدة في مشروع اعادة تشكيل الوضع السوداني من دون النظر إلى المصالح المصرية، وتقدم دعمها غير المشروط إلى سياسات شارون من دون الاستماع إلى الاحتجاجات من القاهرة، وتسير نحو الاعتداء على العراق، واحتلاله والتصرف بشئونه، من دون اعطاء أدنى اعتبار للموقف المصري. خلال الفترة المقبلة، ان حققت إدارة بوش أهدافها في السودان والعراق ونجحت في الحفاظ على البيت الأبيض لدورة رئاسية ثانية، ستبدأ في فرض شروطها ومطالبها على القاهرة (كما على الرياض)، ابتداء من المسألة الفلسطينية، مرورا ببنية السياسة والتعليم والثقافة والعمل الخيري والاجتماعي داخل مصر، وصولا إلى وضع النظام العربي ككل. ليس من الضروري أن يؤدي هذا كله إلى اصطدام مصري - أميركي مكشوف، فالولايات المتحدة مازالت القوة الكبرى المتفردة في الشأن العالمي، ولكن الواضح أن مستوى وحجم التدافع بين القاهرة وواشنطن سيزداد.
إن كان لمصر أن تخرج من هذه المرحلة بأقل الخسائر الممكنة فلابد من تحقيق تماسك مصري داخلي أعلى من مستوى التماسك الحالي، وهو ما يستدعي وضعا سياسيا مصريا داخليا أكثر صحة وعلاقة أوثق بين الدولة وشعبها. وربما كان موقع التيار الإسلامي السياسي في الحياة المصرية ودوره في الحقل السياسي أول المسائل التي تحتاج الآن إلى إعادة نظر
العدد 97 - الأربعاء 11 ديسمبر 2002م الموافق 06 شوال 1423هـ