العدد 97 - الأربعاء 11 ديسمبر 2002م الموافق 06 شوال 1423هـ

العالم تغير

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

اختلف العالم كثيرا عن خمسينات القرن الماضي. هذا الكلام من البديهيات. فهو تطور اكثر مما توقع البعض واقل مما توقعه البعض الآخر. قياسا بالمخيلة تطور العالم قليلا، وقياسا بالواقع تطور كثيرا.

منذ الخمسينات إلى الان شهد العالم سلسلة انقلابات في علاقاته الكونية. التجارة الدولية حققت قفزات نوعية، كذلك انظمة الاتصالات، وانظمة المواصلات، وكل ادوات الاستخدام المنزلية أو تلك المستخدمة في الشركات، والمصارف، وغيرها من اجهزة وتقنيات. الدول ايضا تطورت في اجهزة حكمها ووظائفها وخدماتها.

إلى تطور المؤسسات المدنية تطورت ايضا كل الانظمة العسكرية بدءا من غزو الفضاء وانظمة الصواريخ والدفاع والطيران وانتهاء بكل الاكتشافات التقنية والبيولوجية والكيماوية وغيرها من حقول عملية وبحثية لها صلة بالفضاء والارض والبيئة والانسان.

العالم تغير فعلا واهم تلك التغيرات ان التغير نفسه لم يعد مسألة تثير النقاش والجدل والاختلاف. أصبح التغيير يتمتع بآليات مستقلة لاصلة لها باهتمام الانسان. وهذا هو الجانب السلبي من التطور الذي لا يجري الحديث عنه كثيرا.

في مطلع الستينات حين نزل رائد الفضاء نيل ارمسترونغ على القمر تسمر العالم في منازله ومقاعده ينظر إلى هذا الحدث المدهش يرى ولا يصدق، يقرأ ويطرح السؤال: ماذا بعد؟

بعد ارمسترونغ جرى الكثير، والكثير، والكثير. ومع كل تقدم كان يقل اهتمام الانسان بالتقدم. تحول التقدم إلى بديهية يومية تحصل أو يتحصل عليها الانسان من دون ان تهز وجدانه أو تزعزع ايمانه أو تثير في داخله السؤال. أصبح التطور من الامور العادية التي تعيش على هامش اهتمامات الانسان الاخرى: السكن، العمل، الغذاء، الصحة. وكلها امور اخذت تكبر وتثير القلق عند الانسان. لم يعد التطور يثير القلق بل نتائجه على صعيد الحياة الطبيعية والانسانية.

اختلف العالم كثيرا في خمسينات القرن الماضي. فمع كل تطور كانت الفروقات الانسانية تزداد. تمركز الثروات ازداد. التضخم وصل اعلى درجاته، كذلك البطالة، والفقر، والامية. وفي كثير من مناطق العالم وصلت تلك الامور إلى حد المجاعة والحروب الاهلية والتقاتل على نعمة العيش والموت من اجل حفنة من الرز او من الدولارات. فالسخونة على مستوى التطور التقني رافقتها برودة على مستوى العلاقات الانسانية.

تطور العالم كثيرا منذ الخمسينات لكن تطوره لم يكن على سوية واحدة ولا على مختلف حقول الانسان ومجموع فروع متطلباته الانسانية. فالدول الكبرى استثمرت معظم ثرواتها (المنهوبة اصلا) في تكديس الاسلحة الفتاكة والتنافس على الارض واختراع انظمة اتصالات متطورة لخدمة اجهزتها العسكرية واكتشاف ادوات جديدة للسيطرة وفرض الهيمنة.

استثمرت الدول الكبرى في حقول محددة بقصد الربح السريع، وتطوير نزعة الاستهلاك والرفاهية عند البشر، أو بقصد التنافس للسيطرة على اسواق المال أو النفط أو المعادن أو البشر. فالانفاق في جانب رافقه الاهمال في الجوانب الاخرى. استثمرت الدول الكبرى في ميادين معينة واهملت الاخرى، أو على الاقل لم تهتم كثيرا بالقطاعات الانسانية التي هي جوهر وجود الانسان. فمع التقدم التقني تراجعت العلاقات الانسانية. ومع التطور في انظمة الاتصالات والمواصلات والتجارة تخلفت مشاعر التضامن والتعاون والتكافل الاجتماعي.

تحسنت الالة محولة العالم إلى «قرية كونية» وتفكك الكون إلى قرى منعزلة عن بعضها بعضا وانكفأ الانسان إلى داخلها يعيش في عزلة عن محيطه وجاره في وقت يستطيع الاتصال باي مجهول في اي مكان على الارض.

تطور العالم كثيرا واختلف عن الخمسينات. فالآلة لم تعد كما كانت، كذلك الانسان. فالتقدم السريع والمذهل احدث في داخله فجوات انسانية وفراغات لا تسدها انظمة الاتصالات والمواصلات. فالعالم تطور على صعيد الاحتكار وتراجع كثيرا عن فكرة التنافس.

تراجع التنافس ضرب فكرة الامل وزاد من الكراهية ولعل هذه الفراغات والفجوات الانسانية هي من اسباب دفع الانسان نحو المزيد من العزلة والانكفاء على الذات... ولعلها ايضا تفسر أو تلقي الضوء على العوامل الاضافية لمظاهر العنف والتطرف... والانتحار الجماعي.

العالم تغير. كذلك الانسان

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 97 - الأربعاء 11 ديسمبر 2002م الموافق 06 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً