عدت منذ أيام إلى تحقيق أنجزته في مطلع التسعينات وخصصت له مجلة «المجلة» غلاف عددها الصادر في (أغسطس/ آب 1992). كان الموضوع محاولة للإجابة عن السؤال الآتي: «هل الحركات الإسلامية السياسية مرشحة للنمو في المغرب العربي؟». وبدت لي الصورة يومها كما يأتي: ليبيا مهيأة لإفراز تيارات دينية مختلفة، وتونس قد يفتح تصفية حركة النهضة الباب أمام «الإسلاميين المستقلين».
أما في الجزائر فإن قدرة الظاهرة الدينية على التعبئة سيضمن للتنظيمات المعبرة عنها بعض المواقع، في حين سيشهد المغرب احتواء متوازنا، وستتواصل الانتعاشة الشبابية للتيار الإسلامي في موريتانيا. وخلص التحقيق إلى التأكيد أن «مستقبل الحركات الإسلامية المغاربية يخضع لاحتمالات عديدة ومتداخلة، بعضها محلي وبعضها إقليمي ودولي. ومن دون إهمال خصوصية كل دولة، فإن المنطقة مرشحة لمواصلة البحث عن صيغة تعايش إيجابية مع هذه الظاهرة التي تتغذى من التاريخ والجغرافيا ومن عشرات المآزق التي تمر بها المنطقة، ومن تحديات كبرى ستتعرض لها مع نهاية هذا القرن».
بعد عشر سنوات من رسم تلك اللوحة هل تغير المشهد؟ وهل ظهرت احتمالات جديدة؟ لا يختلف المراقبون لدول المغرب العربي على القول إن السنوات العشر الأخيرة تميزت باندفاع الأنظمة والحكومات نحو مقاومة ظاهرة الإسلام السياسي وتطويقها بهدف القضاء عليها أو احتوائها. فالقمة التي جمعت زعماء المنطقة خلال سنة 1989 وشهدت ميلاد «اتحاد المغرب العربي» تطرقت بحسب معلومات تسربت يومها إلى ظاهرة تنامي هذه الظاهرة وتداعياتها السلبية على استقرار هذه الأنظمة. وإذ دافع كل زعيم عن سياسة بلاده، خصوصا الرئيس الشاذلي بن جديد الذي كان أول حاكم في المنطقة يعترف بحزب إسلامي، لكن كان الجميع يشعرون بحيرة وخوف من هذا الخصم الصاعد. ولم تمضِ سوى فترة وجيزة حتى توالت المواجهات واشتغلت كل آليات التطويق والمحاصرة.
ليبيا: مقاومة «الزنادقة الجدد»
بالنسبة إلى العقيد القذافي فقد حسم أمره باكرا. فمعركته مع الإخوان وأعضاء حزب التحرير تعود إلى منتصف السبعينات، حين أعلن عليهم حربا لا تعرف ضوابط لها: إحراق الكتب، واعتقال بالشبهة، واختطاف المئات، والسماح بممارسة التعذيب، ونصب المشانق في الساحة الخضراء، وإعدام الأساتذة أمام طلابهم والطلبة أمام زملائهم. وفي المقابل لجأ خصومه من الإسلاميين إلى كل الوسائل لمقاومة النظام بما في ذلك القيام بأكثر من محاولة اغتيال فاشلة لرأس السلطة. وعلى رغم أن هذه الحرب دمرت كل الأشكال التنظيمية لهاتين الحركتين، فإن مرحلة التسعينات شهدت ولادة بعض الجماعات غير الإخوانية تمكنت من اختراق الحصار وكسبت أنصارا واتباعا حتى في صفوف القبائل الكبيرة في ليبيا، ومع ذلك واجهتها السلطة بعنف شديد، وطالب العقيد من عائلات من يسميهم بـ «الزنادقة» وقبائلهم بالبراءة من أبنائهم وتسليمهم وتولي محاكمتهم في اعتبارهم خونة للثورة والوطن. وحتى عندما أعلن عن هدم السجون خلال السنة الماضية، وأطلق سراح عدد واسع من المعتقلين استثنى من وصفهم بالإرهابيين، ليؤكد بذلك أن سياسته تجاه الإسلاميين لن تتغير. وذهب إلى أكثر من ذلك حين أبدى استعداده للتعاون مع واشنطن ـ المتمسكة بمواصلة فرض الحصار على ليبيا ـ من أجل مقاومة أنصار تنظيم «القاعدة» في كل مكان.
الجزائر: انتهاج سياسة مزدوجة
كانت الجزائر المحطة الأكثر دموية خلال التسعينات. فقرار الجيش إلغاء الدورة الثانية للانتخابات التشريعية، ووقوفه ضد وصول «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» إلى السلطة بعد الحصول على غالبية الأصوات، دفع هذه الأخيرة إلى التورط في حمل السلاح وتفجير حرب أهلية مدمرة لاتزال البلاد تعاني من آثارها على أكثر من صعيد. وإذ لجأ العسكر إلى كل الوسائل بما في ذلك غير المشروعة مما أثار انتقادات منظمات حقوق الإنسان وبعض الحكومات الغربية، تورط «الجيش الإسلامي للإنقاذ» وخصوصا الجماعات المسلحة التي خرجت من جبة «جبهة الإنقاذ» في ارتكاب جرائم بلغت أحيانا قمة البشاعة التي لا يمكن أن يبررها دين أو ثأر. وإذ كادت السلطة أن تترنح في بداية المواجهة المسلحة، لكنها سرعان ما استعادت شيئا من عافيتها ونجحت الدولة مع نهاية التسعينات في أن تفرض وجودها على الصعيدين الداخلي والخارجي. صحيح أن ظاهرة العنف الدموي لم تختفِ، غير أنه تحول إلى عمليات تستهدف في الغالب المدنيين لإشاعة الإحساس بعدم الأمن بعد أن كاد أن يتحول إلى حرب تحرير للأرض وفصائل تحاصر العاصمة. سقط العنف المسلح كوسيلة لتغيير السلطة، ولحقت بجبهة الإنقاذ خسائر كبيرة أفقدها الكثير من وزنها السياسي، مما سمح لتنظيمات إسلامية أخرى إلى الصعود على الركح مثل حركتي «النهضة» و«السلم» اللتين لم تتورطا في العنف، وراهنتا على النضال السياسي، وقبلتا باللعبة الديمقراطية، وتمكنتا من تحقيق حضور برلماني مهم حافظ على وجود ظاهرة الإسلام السياسي في الجزائر كجزء من النظام السياسي وليس كقوة بديلة عنه أو مهددة له كما كان الشأن مع جبهة الإنقاذ. وهكذا وجدت السلطة الجزائرية نفسها مضطرة إلى انتهاج سياسة مزدوجة، من جهة إقصاء الإنقاذيين من اللعبة ومحاربة المصرين على حمل السلاح في وجه الدولة، ومن جهة أخرى احتواء الأحزاب المعتدلة التي أدانت العنف ووقفت ضد ممارسيه. وعلى رغم أن هذه السياسة مكّنت حزبا تاريخيا مثل جبهة التحرير أن يجدد رصيده في الانتخابات الأخيرة، فإن مستقبل الأوضاع السياسية في الجزائر لايزال يواجه مأزقا تاريخيا مادام الجيش هو الضامن الرئيسي لاستمرار نظام الحكم، ومادام العنف يحصد سنويا آلاف الضحايا، ومادام أنصار جبهة الإنقاذ يبحثون عن مظلة توحد صفوفهم.
تونس: ملف المساجين يحتل الأولوية
الحالة التونسية مختلفة في بعض جوانبها عن بقية التجارب. تحولت المعركة الشاملة ضد الإسلاميين في مطلع التسعينات إلى سياسة دائمة وعامل أيديولوجي إضافي لإضفاء مزيد من الشرعية على السلطة. كما أن هذه المعركة لم تهدف إلى إضعاف الإسلاميين للتحكم فيهم وتوظيفهم كما حصل في أقطار أخرى، وإنما اتخذت من استئصالهم هدفا استراتيجيا. وهي إذ نجحت في تفكيك هياكل «حركة النهضة» وقضت على بقية الجماعات الصغيرة المستقلة عنها، إلا أنها لم تتمكن من القضاء على ظاهرة الإسلام السياسي التي بقيت كامنة وقادرة على الانتعاش في أية لحظة وتحت أي غطاء. بل إن شخصا في مكانة وزير التعليم السابق محمد الشرفي الذي يعتبره أنصار حركة النهضة من أشد العلمانيين عداء لهم أكد حديثا في تصريح له على أن المساجين الإسلاميين «قاسوا الأمرين منذ سنين طويلة، ويجب إطلاق سراحهم والسماح برجوع مهاجريهم». بل فاجأ الجميع عندما أضاف «إني أعتقد أنهم اتعظوا بالتجربة الماضية التي عاشوها ولن يمارسوا العنف. وأن الدولة التونسية قادرة على تحمل وجودهم كحزب سياسي في الساحة ونسبة من النواب في البرلمان، أي أن كل من أعلن معاداته للعنف وامتنع عن ممارسته له الحق في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية لأن الحرية كل لا يتجزأ».
وما قاله الشرفي يشاطره فيه حاليا الكثيرون من الديمقراطيين التونسيين، إقرارا منهم بأن هذه الظاهرة لا يمكن القضاء عليها بالقمع والمنع، وإنما بالصراع والحوار والترويض، وهو اختيار لا تزال ترفضه السلطة بشدة التي تعتبر أن الإسلاميين هم عدوها اللدود. لهذا نفى الوزير الأول محمد الغنوشي حديثا في رده على بعض أعضاء مجلس النواب وجود مساجين سياسيين في تونس، واعتبر أن مئات المعتقلين من حركة النهضة ـ الذين تكاد تجمع معظم الأطراف على المطالبة بإطلاق سراحهم ـ مجرد مساجين للحق العام. لهذا سيبقى موضوع الإسلاميين في تونس مختزلا خلال المرحلة القريبة المقبلة في بعده الإنساني الذي يشكل المقدمة الطبيعية للانتقال إلى مستوى المعالجة السياسية.
المغرب: المراهنة على سياسة الإدماج
في المغرب اختلفت الأوضاع كليا بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جعلت من حزب العدالة والتنمية القوة الحزبية الثالثة في البلاد والطرف الرئيسي للمعارضة داخل البرلمان. فبعد أن كان الإسلاميون المغاربة يبحثون في الثمانينات عن موقع قدم معترف به يمكنهم من المشاركة في الحياة العامة جعلت منهم التحولات العميقة التي شهدتها التسعينات إلى قوة ضاربة تهدد بالزحف على السلطة. ففي تصريح لصحيفة «ماروك هبدو إنترناشيونال» الناطقة بالفرنسية قال الشيخ أبوحفص (مغربي) الذي لا يخفي ولاءه الفكري والروحي لأسامة بن لادن: «كشفت الانتخابات الأخيرة أن أقلية صغيرة من الإسلاميين الذين قبلوا المشاركة في اللعبة السياسية للدولة تمكنت لوحدها من أن تصبح القوة الرئيسية في البلاد. لهذا على الدولة أن تدرك مستقبلا أن عليها أن تتعامل مع الإسلاميين، لأن ما حصل سوى مؤشر صغير على الحجم الحقيقي الذي يتمتع به الإسلاميون لو قرروا غدا تشكيل قطب موحد وغزوا به الفضاء السياسي وقاموا بزحف انتخابي شامل».
وبقطع النظر عن مدى صحة هذا الادعاء، فإن الأهم من ذلك هو كيف وصلت المغرب إلى هذه المرحلة بعد أن بدت في مأمن من هذه الظاهرة؟ جزء من الإجابة قد نعثر عليه فيما قاله أقوى وزير داخلية عرفه العالم العربي إدريس البصري الذي استمر في منصبه 28 عاما في عهد الملك الحسن الثاني. ففي أول تصريح له بعد عزله أدلى به إلى صحيفة «لوجرنال» الناطقة بالفرنسية جاء فيه أن الملك الراحل كان في سنواته الأخيرة ينادي بالتعايش بين الملكية وأعدائها المحتملين، وأنه عمل على إعداد المشهد السياسي بأي ثمن. وفيما يتعلق بالحركات الإسلامية ذكر البصري أن «المشكل الديني لم يطرح في المغرب بشكل مصيري ودرامي. إن الملك هو أمير المؤمنين وهو المرجع والحكم في اللعبة. وما يمكن تسميته بالإسلام السياسي فرض نفسه في نهاية السبعينات عقب حركة الإخوان المسلمين وثورة آيات الله في إيران. وفي سنة 1979 كنا نرى الريح مقبلة، وكان في المغرب قليل من الفراغ السياسي، والطبيعة تخاف من الفراغ. كان الإسلاميون موجودين، وكان مطلوبا الاتفاق معهم والحسم: أي أن نعمل على إدماجهم من أجل ضبطهم أو إبعادهم عن اللعبة السياسية».
وكانت حصيلة هذا التفكير السياسي الاستثنائي في العالم العربي هو ما أوجزه البصري في قوله: «بدلا من إقفال الباب في وجه الإسلاميين، وتركهم يتطرفون أكثر، ويصبحون بذلك خارج المراقبة، فضلنا الترخيص لهم لترويضهم بشكل أفضل، وسيؤكد المستقبل أن ذلك هو الخيار الأفضل».
وهكذا اختار النظام المغربي سياسة الإدماج والتشريك في اللعبة بدل الإقصاء والصراع المفتوح والمستمر. وبذلك انتقلت الكرة إلى حد ما من ساحة السلطة وحدها وأصبحت على الأقل في ملعب الطرفين.
هكذا يتبين من خلال الجولة السابقة أن السنوات المقبلة لن تشهد زوال ظاهرة ما يوصف بـ «الإسلام السياسي» كما زعم البعض من الباحثين الأجانب والمحليين، وأن المغرب العربي مقدم على تحولات مهمة سيكون الإسلاميون في مختلف اتجاهاتهم أحد أبرز اللاعبين الأساسيين الذين سيتحملون إيجابيات وأوزار العشرية الأولى من القرن الجاري
العدد 96 - الثلثاء 10 ديسمبر 2002م الموافق 05 شوال 1423هـ