العدد 96 - الثلثاء 10 ديسمبر 2002م الموافق 05 شوال 1423هـ

من صحيفة المدينة إلى الإعلان العالمي

حقوق الإنسان:

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

في العاشر من سبتمبر/ كانون الأول من كل عام يحتفل العالم بذكرى «اليوم العالمي لإعلان حقوق الإنسان». وحتى الآن مرت 54 سنة على توقيع تلك الوثيقة الدولية إلا أن العالم وخصوصا دوله العظمى والكبرى لم تحترم بنودها أو فسرت نصوصها بأسلوب انتقائي أساء إلى الإنسان وحقوقه في أكثر من مكان وزمان. ولأن الإعلان العالمي هو مجرد ذكرى كان على المسلمين دائما تذكر تلك الأيام السعيدة الماضية التي جعلت أمة من الضعفاء والبسطاء قدوة لأطراف المعمورة من شرقها في الصين إلى غربها في الأندلس.

نجح المسلمون في أقل من مئة سنة في نشر الدعوة من أقصى العالم إلى أقصاه. ونجحت أقلية صغيرة من المؤمنين في هزيمة أعظم الدول وأكبرها لا بحد السيف - كما يقال - وإنما بسيف العقيدة التي لولاها ما خرج العرب من جزيرتهم بوصة واحدة. لم تكن القوة هي الوسيلة الوحيدة، فهي وسيلة من الوسائل، بينها العقيدة؛ كانت هي القوة الدائمة والدافع الأساس لتحريك دعوات الفتح ونشر الإسلام. فالأقلية المؤمنة هزمت عشرات الدول وأعادت دمجها في إطار حضاري إنساني كان له الأثر الحاسم في تطور البشرية وتقدمها. ولولا تلك العقيدة لما نجح السيف. فكم قوة في تاريخ الإنسان استخدمت السيف وفشلت وانهزمت. وكم قوة قبل الإسلام وبعده اعتبرت السيف هو الوسيلة الوحيدة والدائمة لإخضاع الشعوب وإذلالها وانتهت تلك القوى وتلاشت في دفاتر التاريخ. الإسلام وحده بقي واستمر ولايزال يمانع ويقف وحيدا في هذا العالم شاهدا على زمن مضى وتاريخ آت لا محال.

هذا الجانب هو نصف التاريخ والنصف الآخر هو قدرة الإسلام على استيعاب ما سبقه من حضارات وإعادة دمج الثقافات في ثقافة جامعة توحد البشر تحت راية واحدة تعترف بالتنوع والتعدد والاختلاف.

شكّل الجانب الثقاقي - التنظيمي جاذبية لكل البلدان. وتحولت جاذبية الإسلام إلى نقطة اجتمعت حولها عشرات الدوائر وأخذت منها العلم والإيمان. ومن مدرسة الإسلام تخرج آلاف الفقهاء والعلماء والفلاسفة من مختلف الأقوام والشعوب والقبائل وعنه أخذوا الأصول ومنه كتبوا الفروع فاتصل الأول بالآخر والبادية بالمرتفعات والسهول بالبحار. فالإسلام اختصر المسافات وشكل جسر وصل وتواصل بين شعوب لا يجمعها جامع ولا يوحدها موحد إلا الكتاب.

الاعتراف بالآخر كانت قوة الإسلام السحرية. فقبله كان الإلغاء هو مدخل كل حضارة. فاللاحق كان يلغي السابق شرطا لصعوده التاريخي على حساب من سبقه في محطات الزمن. الإسلام كسر العادة وكان الاعتراف هو المدخل أو الشرط العقائدي - التاريخي للاحتضان والاستيعاب وأخيرا التجاوز إلى الأعلى والتقدم إلى الأمام.

قيل الكثير عن حقوق الإنسان وفُعل القليل. إلا ان العالم الذي يقدم المواعظ اليوم نسي تاريخه أو على الأقل تناسى المشترك الإنساني ودور الشعوب في بناء الحضارة. فالحضارة اليوم ليست نتاج ساعات من الوقت، إنما هي ثمرة جهود بشرية أسهمت فيها مختلف الشعوب حتى وصلنا إلى ما آلت إليه الإنسانية في زمننا. وفي مجال حقوق الإنسان لابد من تذكر صحيفة المدينة. تلك الصحيفة التي شكلت نقطة تحول في تاريخ المسلمين. فهي وُضعت في السنة الأولى للهجرة - من مكة إلى يثرب - بهدف تنظيم العلاقات بين المهاجرين والأنصار من جهة، وبين المسلمين و«المؤمنين» وكل الفئات التي تعيش في يثرب من جهة أخرى. فالصحيفة تعتبر بداية تأسيس الدولة الإسلامية التي بدأت نواتها الأولى في مكة واكتملت دعائمها في يثرب. وهي جاءت من ناحية التعاقب الزمني الخطوة الثانية بعد تأسيس المسجد الأول في المدينة (مركز الدولة).

تألفت بنود الصحيفة من 33 فقرة ضمنت الحرية الدينية والتعايش السلمي بين فئات المدينة، وشرّعت حق اللجوء وحق التجنيس، واشترطت منع الفتنة والثأر وحفظ الأمن الداخلي والدفاع عن المدينة، وجعلت القضاء فوق الجميع، وأكدت على وحدة الهوية المشتركة، ومنعت أي تمييز بين الهويات القبلية والعشائرية والدينية (وثنيين، مسيحيين، ويهود). فالمدينة هي الهوية الجديدة (جنسية مشتركة) والصحيفة هي العهد (الميثاق) الجامع بين فئاتها. فالصحيفة تشبه العقد السياسي (الدستوري) في أيامنا إذ ضمنت لكل الفئات حرياتها الدينية وحقوقها المادية مقابل التزامات محددة واجبة على الكل (نفقات الأمن والدفاع) وتركت للأفراد حرية الاختيار للمشاركة في الحرب وعمليات الجهاد باستثناء المسلمين لأن الجهاد فريضة.

اعتبر الباحثون المعاصرون «صحيفة المدينة» أول وثيقة واضحة البنود والمعالم تطرقت إلى حقوق الإنسان ونظمت حرياته وحددت واجباته والتزاماته. فهي جاءت في فترة لم تكن «السور المدنية» قد أنزلت. وحين أنزلت الآيات تراجع موقع الصحيفة وحل الكتاب مرجعا أعلى ينظم الحياة الاجتماعية والقضاء والعلاقات. تراجع دور الصحيفة وتحولت إلى وثيقة تاريخية، إلا ان زمنها لم ينته... ألا يكفي ان الرسول (ص) هو من أشرف على صوغ بنودها ووضع فقراتها؟

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 96 - الثلثاء 10 ديسمبر 2002م الموافق 05 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً