خصَّص العدد 74 من مجلة «شئون أدبية»، التي تصدر عن اتحاد كتَّاب وأدباء الإمارات، ملفاً تضمَّن دراسات نقدية وقراءات في أثر ونتاج الشاعر والأديب والوزير السعودي الراحل غازي القصيبي (2 مارس/ آذار 1940 - 15 أغسطس 2010م)، الذي نقترب من الذكرى السابعة لرحيله بعد شهور ثلاثة.
شارك في الملف نخبة من المثقفين الخليجيين والعرب، من بينهم الباحثة والناقدة السعودية ميساء الخواجة، وحملت ورقتها عنوان «غازي القصيبي... المثقف المسئول»، الناقد والأكاديمي المصري شريف الجيَّار، بورقة «رواية العصفورية لغازي القصيبي مَسْرواية ساخرة لوطن مأزوم»، الناقد واستاذ اللغة العربية في قسم اللغات الأجنبية بكلية واشتناو أن آربر ميشيغان، صبري مسلم بورقة «المنظور الشعري عند غازي القصيبي»، والناقد وأستاذ الأدب في جامعة الملك سعود، صالح زياد الغامدي، بورقة أفق الخطاب الشعري عند غازي القصيبي»، الناقدة والأكاديمية العراقية وجدان الصايغ بورقة «القصيبي ورثاء الذات»، الناقد والباحث السعودي سعد البازعي، بورقته «القصيبي في مدن الآخر». كما تضمن الملف مختارات شعرية من عدد من أعمال القصيبي، وسيرة ذاتية مختصرة.
سنكتفي في استعراض الملف بما جاء في أوراق كل من: السعودية ميساء الخواجة، في ورقتها «غازي القصيبي... المثقف المسئول»، الناقد والأكاديمي المصري شريف الجيَّار، في ورقته «رواية (العصفورية) لغازي القصيبي مَسْرواية ساخرة، لوطن مأزوم» وأخيراً، الباحث الأكاديمي صالح زياد الغامدي، في ورقته «أفق الخطاب الشعري عند غازي القصيبي».
ميساء الخواجة في ورقتها «غازي القصيبي... المثقف المسئول»، استهلّتها بتقديم مفاهيم متباينة للمثقف، حيث اعتبرت مفهوم المثقف مفهوماً إشكالياً في الدراسات الحديثة، وخصوصاً حين تناول دور المثقف وعلاقته بالمجتمع وقضايا أمته، ولاسيما أن القصيبي خاض تجارب ومجالات كان فيها قريباً من المجتمع من خلال مسئولياته الدبلوماسية، سواء لدى عمله سفيراً في أكثر من عاصمة، أو حين تسلَّم مسئوليات الوزارة لسنوات طويلة، منذ السبعينات من القرن الماضي، وحتى وقت رحيله في 15 أغسطس/ آب 2010م.
من هذا المنحى، ترى الخواجة أنه بالنظر إلى سيرة القصيبي، يمكن أن يُلاحَظ أنه كان مثقفاً عمومياً «فاعلاً ومؤثراً في المجتمع؛ حيث كان يمثّل دور المثقف الواعي الذي لا تنفصل مبادئه عن سلوكه ومواقفه».
ما تركِّز عليه الخواجة، هو أن القصيبي استطاع تحريك المياه الراكدة، ومواجهة عديد القضايا المسكوت عنها «وذلك على مستويي الكتابة/ الفكر والقيم العليا، والعمل/ السياسة والإدارة».
صراعه مع الصحويين
لا تقدِّم إشارة الخواجة، ولا تؤخر، حين تتناول تنوع إصدارات القصيبي التي توزَّعت على الشعر والرواية والمؤلفات الفكرية التي مست التنمية والسياسة والقضايا الاجتماعية، كما أنها لا تعمل على إضاءة أو تشريح جانب من تلك الأعمال، مكتفية بالمرور عليها. ذلك التنوع ولَّد خصوماً لديه، كي لا نخفِّف من وقع الأمر، كما يفعل كثيرون، وربما ما حصَّنه وحماه من تجاوز تلك الخصومات حد الأخذ والرد والمشاكسات هنا وهناك، هو أنه كان قريباً من بيت الحكم، باعتباره من أقدم الشخصيات التي تعاقبت على الوزارة في تاريخ المملكة العربية السعودية، علاوة على تحدُّره من واحدة من العائلات الكبرى في السعودية والمنطقة، وكان لوالده دور كبير في تثبيت أركان الدولة السعودية في عهد المؤسس الملك عبدالعزيز؛ إذ كان سفيراً وممثلاً له في البحرين. ومع ذلك لم تحل الضغوطات دون منع عدد من أعماله في الداخل.
تشير الخواجة إلى جانب من المعاناة والمواجهات التي عرفها، وخصوصاً مع صدور ديوانه الثالث «معركة بلا راية» العام 1970 «حيث توالت الوفود على الملك فيصل لمطالبته بمنع الديوان ومعاقبة الشاعر، إلا أن اللجان التي شكّلها الملك فيصل أقرَّت بأنه لا يوجد في الديوان ما يسيء إلى الدّين والعادات».
وتزيد على ذلك بالإشارة إلى أنه وصل الأمر بالصحويين في فترة التسعينيات إلى الطعن فيه على المنابر وعبر أشرطة الكاسيت والمنشورات؛ ما دفعه إلى إصدار كتاب «حتى لا تكون فتنة» «ليرد فيه على المتزمتين من خصومه». من بين المواجهات التي عرفها مع الصحويين وغيرهم يوم أن قدَّم لرواية رجاء الصانع «بنات الرياض»، وهي التي أحدثت ضجة ولغطاً وتوتراً كبيراً في الداخل السعودي وخارجه. أما عن دوره وقت تسلمه لمسئولياته الوزارية، ومن بينها تسلمه وزارة الصحة، فتذكر الخواجة عدداً من الإصلاحات التي قام بها بشكل حاسم، حين أقال مدير أحد المستشفيات في جدة «عندما اطلع في زيارة مفاجئة له على حجم الإهمال وسوء الأوضاع في ذلك المستشفى.
والله... أنا الوزير!
والحادثة بالحادثة تُذكر، تعددت القصص الطريفة التي عايشها وكان طرفاً فيها في سنوات تنقله بين الوزارات؛ إذ يروي القصيبي أنه في أحد الأيام إبان وزارته في الكهرباء والصناعة حصل انقطاع للكهرباء في أحد أحياء الرياض وكان القصيبي يذهب إلى مقر الشركة ويتلقى الشكاوى الهاتفية مع موظفي السنترال كلما حدث انقطاع فلما كان ذاك اليوم وأثناء تلقيه للاتصالات على سنترال الشركة حادثه مواطن غاضب قائلا: «قل لوزيركم الشاعر أنه لو ترك شعره واهتم بعمله لما انقطعت الكهرباء عن الرياض». يقول غازي «فقلت له ببساطة شكراً... وصلت الرسالة فقال: ماذا تعني؟ قلت: أنا الوزير. قال: أحلف بالله فقلت: والله»!
وتعرج الخواجة على عدد من إنجازاته ومبادراته التي مازالت قائمة حتى اليوم، من بينها إنشاء جمعية أصدقاء المرضى، وتشجيع التبرع بالدم. وحين تسلّم مسئولية وزارة العمل قدَّم نموذجاً للقائد التحويلي بتركيزه على التغيير والتأثير «فهو صاحب فكرة مشاركة الحكومة للقطاع الخاص في توظيف العاطلين عن العمل، والمتمثلة في صندوق الموارد البشرية، وكثيراً ما شوهد مرتدياً زي عامل المطعم والمهني ليشجع ثقافة العمل اليدوي».
«العصفورية»...
شعرية الخطاب السردي
أما الناقد والأكاديمي المصري شريف الجيَّار، فقد اشتغلت ورقته على رواية «العصفورية»، باعتبارها «مَسْرواية» أي مسرحية/ رواية ساخرة وألحقها بـ «لوطن مأزوم». في الورقة وقوف على شعرية الخطاب السردي، والسياقات الجمالية لدى القصيبي. ويرى الجيَّار أن الخطاب الروائي في «العصفورية» يأتي في «نسق حداثي تجريبي، وبنية سردية عبْر نوعية، تمثل شكلاً من أشكال «المَسْراوية، التي تضفر المسرحي بالروائي، وتدخلنا إلى عالمها، بانطلاقة سردية تتجاوز البداية السردية التقليدية، وتقترب من البداية المشهدية المسرحية».
يتمثل الجيَّار النص من خلال مدخل في الصفحة التاسعة، حيث المشهد الحواري الافتتاحي، كشفاً لمسرح الأحداث، بطبيعة المكان والزمان والشخصيات «حيث ينادي البروفيسور السعودي بشار الغول، النزيل في جناح بمصحة العصفورية، في لبنان، على الممرض شفيق، كي يسأله عن الدكتور سمير ثابت، المعالج النفسي في المصحة. كي يروي له كل شيء، عبر ذاكرة استرجاعية، وسرد بوح، يجتر تفاصيل التجارب التي خاضها البروفيسور»... يقول للدكتور: «أنا لست مريضاً. أنا، يا مولانا، لم أجئ هنا للعلاج. أتيت للحديث. وأنت تتقاضي مئة دولار في الدقيقة، في الدقيقة لا في الساعة يا دكتور، مقابل الإنصات إليَّ. لا تقل مرة ثانية لا تصريحاً ولا تلميحاً إني مريض هنا».
يضيء الجيّار جانباً من ذلك الحوار، ويرى أن القصيبي يتخذ من هذه الجلسات الحوارية، إطاراً فنياً ممتداً، وتقنية مركزية مهيمنة، على شعرية «العصفورية»، حتى يطرح النص موقفاً تجاه تراجع التجربة العربية، منذ سبعينيات القرن العشرين، راصداً أسباب إخفاقاتها، مقارنة بالتجربة الأميركية والأوروبية، مستعيناً في ذلك، بشعرية البوح، وسياق ساخر، يمزج الضحك بالبكاء.
ويرى الجيَّار أن نص القصيبي يكثّف من نقده للوضع العربي، وهو نقد من أجل التغيير للأفضل، عاقداً مقارنات بين المجتمعات العربية، وغيرها في أميركا وأوروبا، ولاسيما في العمل المؤسسي وحقوق الإنسان؛ حتى يبرر ما حدث من تراجع للمشروع العربي، منذ سبعينيات القرن الماضي.
ومن بين ما يقف على الجيَّار أن السارد المشخّص في نص «العصفورية»، قد مزج استقراءه لواقعه العربي، ببنية نصية معلوماتية، ولاسيما في سرده عن العادات والتقاليد وأساليب الحياة، في الدول التي زارها، وعاش فيها، حتى اقترن النص وفي غير موضع بسياق أدب الرحلات.
كما يرى الجيَّار أن السارد يمزج الحقيقي بالفانتازي، في طوايا نصه؛ «حيث تزوّج البروفيسور من زوجتين، إحداهما فضائية تظهر على هيئة فراشة، والأخرى جنّية اسمها دفَّاية، وقد أصبحتا حاملين. ولعب هذا السياق الفانتازي، كما يكتب الجيَّار «دوراً مهماً في تمهيد نص القصيبي المَسْروائي، نحو نهاية فانتازية، بعنوان (مخرج)، تقترب من النهاية المسرحية؛ حيث ذهب البروفيسور مع زوجتيه، الفضائية فراشة، والجنّية دفّاية، إلى عالمي الفضاء والجن، وكأن السارد يعلن رحيل الجيل الذي يحمل العلم والمعرفة، حتى يحين التغيير، ويأتي الزمن الذي تؤمن فيه عربستان، بعلمائها، فيعودون إليها مرة أخرى».
تعدّد الموضوعات في شعره
أما الناقد والباحث الأكاديمي صالح زياد الغامدي، في ورقته «أفق الخطاب الشعري عند غازي القصيبي»، فيتناول تعدّد الموضوعات في شعر القصيبي، بين الذاتية والتأملية والوطنية والقومية والإنسانية، إلى جانب تعدّد أشكال قصائده وتنوّعها. ويرى الغامدي أن هذا التعدّد والتنوّع محكوم بوجهة فنية مذهبية، أو بموقف «بحيث يستحيل التعدّد إلى وحدة، والتنوّع إلى تشاكل، وهو افتراض تكذّبه وقائع شعر القصيبي الذي تندرج بعض قصائده في عداد صفة تقليدية ذات روح اتباعية ترنّ في جنباتها أمثال نغمات المتنبي والبارودي وروحيهما (...)».
وعن دلالة وأهمية ذلك التنوّع والتعدّد، يقول الغامدي، إن شعره بذلك التوصيف، ليس عوالم مختلفة، بل هو عالم واحد تفضي القصيدة إلى غيرها من القصائد، ويتصل كل ديوان بغيره من الدواوين، ويغدو الذاتي أحد وجوه الإنساني، والوطني صفحة من صفحات القومي.
وبالتماس مع ذلك التنوّع والتعدّد، لم يجد الغامدي بدّاً من الوقوف على رؤية القصيبي نفسه للشعر في التعامل مع صيَغِه وأشكاله وحتى موضوعاته. مشيراً إلى أن القصيبي في حديثه عن شعره وسرده، يرفض رؤية الشعر بتصنيفات شكلية أو مذهبية أو موضوعاتية «فأي شاعر - فيما يقول - (يجب أن يكون كلاسيكياً ورومانسياً وواقعياً في الوقت نفسه)، (وكل شعر حقيقي لا بد أن تتوافر فيه الروافد الثلاثة، الكلاسيكية والرومانسية والواقعية)». ومن ثم فإنه يرى كل شعره ذاتياً وواقعياً وكلاسيكياً بمعنى أنه يشتمل على المكوّنات الثلاثة.
وعمَّا أسماه «منتصف المسافة» على مجازيته في تشخيص الموقف الشعري عند القصيبي، يرى الغامدي بأنه ليس دلالة تلفيق وتسوية وتوفيق وجمع ومؤالفة «فهذه دلالة شوهاء للموقف الشعري لأنها دلالة تفرغ صفته المذكورة من القيمة وتمحضها لتلاقي النقائض والأضداد والمتعارضات والمختلفات وافتراقها من دون أن يكون لذلك معنى أو تترتب عليه قيمة».
من إصدارات الراحل
صدر له في الرواية والقصة: «شقة الحرية»، «دنسكو»، «أبوشلاخ البرمائي»، «العصفورية»، «سبعة»، «سعادة السفير»، «الجنيّة»، «العودة سائحاً إلى كاليفورنيا»، «هما»، «حكاية حب»، «رجل جاء وذهب»، أقصوصة «ألزهايمر»، ونشرت بعد وفاته
كما أن له مؤلفات أخرى في التنمية والسياسة وغيرها، من بينها: «التنمية»، «الأسئلة الكبرى»، «عن هذا وذاك»، «باي باي لندن ومقالات أخرى»، «الأسطورة ديانا»، «100 من أقوالي غير المأثورة»، «ثورة في السنة النبوية»، و «حتى لا تكون فتنة».
وله كتاب واحد في الترجمة لإيريك هوفر، حمل عنوان «المؤمن الصادق».
أما الإصدارات الشعرية فغلبت على نتاجاته الأخرى ومنها: «أشعار من جزائر اللؤلؤ»، وصدر العام 1960م، «قطرات من ظمأ»، (1965م)، «في ذكرى نبيل»، (1969م)، «معركة بلا راية»، (1970م)، «أبيات غزل»، (1976م)، «أنت الرياض»، (1977م)، «قصائد مختارة»، (1980م)، «الحمى»، (1982م)، «العودة إلى الأماكن القديمة»، (1985م)، «المجموعة الشعرية الكاملة»، (1987م)، «ورود على ضفائر سناء»، (1987م)، «مرثية فارس سابق»، (1990م)، «عقد من الحجارة»، (1991م)، «سحيم»، (1996م)، «قراءة في وجه لندن»، (1997م)، «واللون عن الأوراد»، (2000م)، «يا فدى ناظريك»، (2001م)، «الأشجُّ»، (2001م)، «للشهداء»، (2002م)، «حديقة الغروب»، (2007م)، و «البراعم»، (2008م).