عدا حالات واستثناءات محدودة، فإن إضرابات المعتقلين والسجناء في سجون العالم نادراً ما تحدث في الدول الديمقراطية الحقة، بل تحدث عادةً في سجون الأنظمة الدكتاتورية التي تُنشئها كسجون عقاب جماعي مستديم طوال مدد اعتقالهم أو فترات محكومياتهم، حتى لو كانت بعشرات السنين أو قضى كثير منهم نحبه فيها تحت تأثير الأوضاع اللاإنسانية البالغة السوء التي تتعمد سلطات تلك السجون والمعتقلات بأن تسومهم فيها شتى صنوف العذاب اليومي والتحطيم النفسي، بدءاً من جعل الزنازن مكتظة بنزلائها، ومروراً بالحرص على جعل الحمّامات قذرة على الدوام، وكذلك إطعامهم وجبات غذائية تُقرف شهية حتى الجوعى، فجعل السجين عرضةً لأضرار التقلبات المناخية برداً أو حراً بدون حماية، فالتضييق على زيارات الأهالي لهم، ومباعدة مواقيتها الدورية وتقصير فتراتها، ناهيك عن حظر معظم الحاجيات العادية التي يحتاجها السجين من ذويه، ومنها أدويته المقررة إن كان مريضاً قبل دخوله السجن والإهمال الطبي لأي سجين يتعرض للمرض بداخله، وليس انتهاءً حتى من ممارسة التعذيب البدني بالهراوات وتوجيه أقذر الشتائم باختلاق ذرائع مفتعلة، دع عنك ما سامته حيالهم قِبلاً من تعذيب في غرف التحقيق فأحكام السجن الطويلة بحقهم.
وبذلك فان أوضاع السجون في العالم هي مرآة أمينة صادقة -بقذارتها أو نظافتها- لوجه الأنظمة السياسية. ومع إن الأوضاع التي تمرد عليها الأسرى الفلسطينيون في السجون الاسرائيلية من خلال معركة الأمعاء الخاوية والتي استمرت 41 يوماً لا تختلف عن أوضاع سجون المنطقة، إلا أنه يمكن فهمها على الأقل بأنها نتاج منطقي يعكس الوجه العنصري القبيح لاسرائيل كدولة عنصرية إزاء نضالات الشعب العربي الفلسطيني الذي اغتصبت أرضه، وصادرت حقه في الحياة وتقرير المصير.
والحال أن ما حققه الإضراب الأخير من نصر بتلبية الحد الأدنى من مطالب المضربين، يعود بعض أفضاله إلى ما راكمه الأسرى الفلسطينيون من خبرات إضرابية عريقة على مدى 50 عاماً منذ ما بعد حرب 67، ولاسيما أنه تحقق في ظل ظروف وموازين فلسطينية وعربية وإقليمية ودولية شديدة الاختلال لغير صالح القضية الفلسطينية، وهنا تكمن عظمة الملحمة الإضرابية الأخيرة والتي ساهمت عدة عوامل في تكللها بالنجاح، والتي تشكل في الوقت ذاته دروساً مهمة جديرة التمسك بها، واستلهامها ليس على الصعيد الفلسطيني فحسب؛ بل وعلى الصعيد العربي، ولعل أهمها:
الأول: الصمود الأسطوري والعزيمة الجبارة التي أبداها كل المُضربين، مستلهمين الموقف الفولاذي لقياداتهم الفذة داخل السجون وعلى رأسهم مروان البرغوثي (القيادي في فتح) وأحمد سعدات (قائد الجبهة الشعبية) وقياديون من فصائل وطنية وإسلامية أخرى مثل «الجهاد» و»حماس»، ومن ثم إصرارهم الذي لم يلن على مواصلة الإضراب وتصديهم بلا كلل لكل حيل العدو لإفشاله.
العامل الثاني: وحدة فصائل النضال الفلسطيني في هذه المعركة تحديداً بدون مزايدات أي منها على الأخرى خلال معركة الإضراب، احتراماً لمشاعر المضربين، وبدون أيضاً إقحام مطالب سياسية بعيدة عن شجون وشئون السجون التي يرزح فيها الأسرى.
العامل الثالث: الموقف الشجاع لأهالي المضربين والمساند بكل قوة لإضراب ذويهم، من خلال المخيمات التي نصبوها في مختلف مدن الضفة والقطاع، وهنا يبرز بوجه خاص الموقف المتميز الشجاع للمناضلة الرائعة فدوى البرغوثي زوجة المناضل القيادي في «فتح» الأسير البطل مروان البرغوثي.
الرابع: الدور المساند الذي وقفته الأحزاب والحركات العربية والعالمية والمؤسسات الحقوقية العالمية، ولجان المقاطعة العالمية لاسرائيل المعروفة BDS، فضلاً عن المؤسسات الوطنية والحقوقية ولجان التضامن والإسناد الشعبية في فلسطين. وقد ضرب المناضل القيادي الأسير أحمد سعدات الأمين العام للجبهة الشعبية مثالاً إنسانياً رائعاً في الامتنان لكل المواقف التضامنية العربية والعالمية مع الإضراب مهما بدا تأثيرها محدوداً، كما جاء في بيانه من معتقل ريمون بتاريخ 28 مايو/ أيار الماضي.
وأخيراً فإن توحد الفصائل والقوى الفلسطينية في هذه المسألة تحديداً ليعطي درساً جديراً بالاستلهام من قوى المعارضة الوطنية والاسلامية في عالمنا العربي، وبخاصة في دول الربيع العربي المُجهض، ذلك بأن النضال من أجل تحقيق مطالب آنية إنسانية في أحوال محددة ناجمة عن تداعيات الاحتقان السياسي لا ينبغي -لخصوصيتها الطارئة- ربطه على الدوام بالاستحقاقات المطلبية الاصلاحية الكبرى، في ظل اشتداد التأزم والتوتر والانكفاء الجماهيري تحت وطأة شدة القمع، ومن ثم انسداد قنوات الحلول بشأنها. فلئن كانت قنوات الحوار السياسي مسدودة ومعدومة تماماً فلا يعني ذلك عدم بذل الجهود المستميتة لفتح القنوات للأحوال الإنقاذية الإنسانية الطارئة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، الحالات المتعلقة بإنقاذ أرواح بضع عشرات من الشباب اليافعين خلال اعتصاماتهم، والذين قد يُتركون لمواجهة مصيرهم لوحدهم بأنفسهم بدافع الحماس الجهادي المُفرط في مواجهات معزولة غير متكافئة مع القوات الأمنية دون أن تبذل الجهود الكافية لفتح القنوات مع السلطات لتحقيق غاية آنية مُحددة تسمح بمخرج يحفظ أرواح مثل هؤلاء الشباب العرب، حتى لو بدا المنتصر فيها السلطة العربية. وأحسب ان القيادات الوطنية والدينية الروحية العربية تتحمل قسطاً من المسئولية (وأشدد هنا على معنى «قسطاً») لعدم بذل أقصى جهودها المستميتة الممكنة، ولربما ذلك ناجم عن تأثير مشاعر الإباء التي لا ينبغي خلطها في مثل تلك الأحوال الانسانية الطارئة الشاخصة بمشاعر الإباء والندية المفترضة لفتح القنوات المتصلة بالمطالب الكبرى المسدودة سلفاً، نقول ذلك بصرف النظر هنا عن حُسن نواياها في مثل هذا التقصير وتألمها لما وقع.
وبالتالي، في تقديري، الأمر بحاجة لمراجعة موضوعية شجاعة من قِبل القيادات الروحية والدينية العربية المعنية المعارضة، وبخاصة غير الميدانية منها لتلافي مستقبلاً وقوع مثل تلك الحالات المؤسفة من إراقة الدماء، وزهق الأرواح في ظل أوضاع متردية من اختلال الموازين والتي يتم فيها فرض تكبيل أيدي حركة المعارضة تكبيلا شبه كلي، وفرض الشلل شبه التام لحركة الجماهير.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 5383 - الجمعة 02 يونيو 2017م الموافق 07 رمضان 1438هـ