تحولت الندوة الخاصة بتقييم تجربة الباحث وسام السبع عبر تحقيقه كتاب محمد علي التاجر «عقود اللآل في تاريخ جزائر أوال»، إلى جلسة شبيهة بمحاكمة أداء التاجر، المتوفى في 1967، في الكتابة والتدوين.
وخلال الندوة، التي احتضنها مساء أمس الأول الأربعاء (31 مايو/ أيار2017)، مجلس أمير رجب في منطقة سند، قاد الباحث عباس المرشد، منفرداً، حملة المحاكمة، ليبدأ ذلك بالقول إن نص «عقود اللآل»، يوضح ان التاجر كان راويا اخباريا او حكواتيا ولم يكن مؤرخا، وخلص عطفاً على نقد مطول للقول «لا يمكن النظر لهذا النص كشهادة تاريخية».
أبعد من ذلك، قال المرشد: «إن التاجر، وهذا هو الذي سيكشف سر الكتاب، كان محسوباً على فئة معينة من فئات المجتمع آنذاك وهي فئة الحاكم. لذا أرادوا خلق تاريخ معين وذاكرة معينة حول حدث مفصلي قبل ما يزيد عن 200 سنة، فيما الوثائق الاقدم ومن كانوا معاصرين للحدث أو أقرب له، لم يشيروا لما أشار له التاجر إطلاقاً».
من ذلك، استنتج المرشد «اذا هناك رواية اقحمت في الذاكرة التاريخية واريد لها ان تنتشر عبر حلقة النبهاني -الخيري- التاجر، وجميعهم يشكلون حلقة واحدة واتجاها واحدا، وكأنما كل شخص جاء ليكمل للآخر بالروايات التي تحتاج للمزيد من التحقيق والدراسة والتقصي».
وأضاف «اقول ذلك، لاننا نرى أنه وجد اليوم في العام 1995 والعام 2000 من اراد ان يتكئ على بعض النصوص التي أوردها التاجر وأراد ان يوظفها توظيفاً اقرب ما يكون الى التوظيف السياسي في الحكم على معاملات أجريت في سنة 1923، السنة التي تمثل لحظة ولادة الدولة الحديثة في البحرين، ولحظة بداية الوعي الوطني والوعي القومي والحركي (1922 - 1924)، وبالتالي أقول: إن لم نقف عند هذه اللحظة التاريخية وقفة صارمة، كل الذاكرة التاريخية التي ستنسج عبر هذه النصوص، ستعيد انتاج تلك المرحلة، وما يجب ان يكون هو ان نتوقف عن اعادة الانتاج ونفسر ذلك الانتاج كمثقفين وكمؤرخين».
رغم ذلك، رأى المرشد أن «لنص التاجر أهميته في انه يعطينا الوصفة التي كانت في 1923 وكيف بنيت الدولة وكيف نسجت الذاكرة التاريخية والوطنية في هذا المجتمع»، وعقب «اذا اردنا ان نحل الكثير من الازمات وكثير من التوترات الموجودة، علينا ان نعمل على حل هذه المشكلة، مشكلة الذاكرة وكيف تأسست قبل هذه النصوص ونصوص أخرى».
وأضاف «هنالك توظيف سياسي حدث لبعض نصوص التاجر، من قبل كتابات معاصرة أرادت ان توظف التاجر في خدمة هذا الاتجاه، لمحو ذاكرة معينة وتثبيت ذاكرة أخرى».
والمرشد الذي انبرى لتقديم قراءته، قال وهو يواصل حديثه المثير والجريء: «النص الذي أمامي (عقود اللآل) اعتبره من النصوص ذات الاشكالية، وقد حادثت الأخ وسام السبع: ماذا لو سألتك بعد هذا التحقيق؟ هل التاجر راوٍ (مجرد حكواتي) أم مؤرخ؟ اثير السؤال لسبب معين، فأنا غير معني تماما بعملية التحقيق وتقنياته».
وأضاف «شخصيا، اهتم بالأثر الفعلي لنص وجد قبل حوالي 60 سنة، فنص التاجر كتب في منتصف الثلاثينات، وقد كتبه كنوع من الذكريات أو السيرة الذاتية (أراد ان يختتم بها مرحلة)، لذا بعد ذلك انتقل لبيع الطوابع، وكأنما عكف عن كل ما كان يشتغل فيه واتجه لمجال آخر. أطرح ذلك لإثارة الذهن».
وتعقيباً على ما أثير بشأن حذف نصوص من التجربة الأولى لتحقيق كتاب (عقود اللآل)، قال المرشد: «حين كنت مع الإعلامي إبراهيم بشمي (صاحب التجربة الأولى في تحقيق الكتاب سنة 1994)، سألته عن حذف مجموعة كبيرة من النصوص، فكانت اجابته لا تخلو من دبلوماسية، قال: (لو لم أحذفها، لن ينشر الكتاب وسيبقى منسيا، فتدخلت بطريقة معينة لأعزل بعض النصوص التي يمكن أن يتابعها المرء بطريقته، وأضع بعض النقاط والقارئ الفطن يفهم ان هنا علامة استفهام ومن ثم بإمكانه أن يبحث)».
أبعاد عديدة طرحها المرشد عبر نقده تجربة التاجر، أوضحها بالقول «هذا النص (عقود اللآل) وجد في فترة لم يكن فيها احد يكتب عن تاريخ البحرين، وحين تستعرض حصيلة 1400 سنة لا يوجد عدا 4 أو 5 كتب، لا من المؤلفين الكبار ولا الفقهاء ولا من اصحاب هذه الارض ولا من قبل من لهم علاقة وعاشوا وذهبوا واستنفعوا بأموال هذه الجزيرة. لم يكتب احد، كل المؤلفات التاريخية تستثني البحرين لسبب أو لآخر، وانا أجهل الآن لماذا هذه الجزيرة تغيب عن الوعي التاريخي، هل بفعل قوة إرادية من الكتاب او المؤرخين أو الحكام؟ أم انه لا يوجد ما يستحق في الجزيرة لكي يفرد له في التأليف».
وواصل المرشد توغله التاريخي: «سؤال طرح بداية العشرينات بقوة على المجتمع البحريني: من يكتب تاريخ هذه الجزيرة؟ وهل يحق لأي انسان من خارج البلد ان يعطى مجموعة من الاموال والهبات ويقال له اكتب تاريخ هذه الجزيرة؟ اما أن المسألة يجب ان يتولاها ابناء هذا المجتمع؟».
وأضاف أن «النبهاني وصل للبحرين، وعرضت عليه مهمة كتابة تاريخ البحرين وكان في بلاط الحاكم آنذاك، فكتب (التحفة النبهانية) وأحدث نوعا من الصدمة للمجتمع بمجموعة من المغالطات والآراء غير المتسقة، ومن انبرى له شخص آخر مؤرخ قدير ناصر الخيري، فكتب الخيري كتاب ليرد على النبهاني، وإزاء ذلك صدم التاجر من ماكتبه الخيري كما صدم من ما كتبه النبهاني، ولربما أراد ان يكتب التاريخ من وجهة نظر مختلفة عن كلا الطرفين».
ورأى المرشد أن حديثه هذا يعيد تسليط الضوء على «المسألة التي نعاني منها منذ 100 سنة، والتي لم تحل للاسف الشديد حتى اليوم: من يكتب تاريخ هذه الجزيرة؟ هل يكتب بالانتقاء أم بالوقائع وتأسيس ذاكرة تاريخية معتد بها؟».
سلسلة تساؤلات أعقبها المرشد بالقول «كل المحاولات التي كتبت سواء من النبهاني أو الخيري أو التاجر، حاولت أن تكتب التاريخ من وجهة نظر أسميها بالطائفية نوعاً ما، لم يتجرد احد من طائفته ليكتب التاريخ كما هو وكما هو بالفعل أداء المؤرخ، وهذه الاجابة تنتهي بي للقول: ان التاجر كان راويا اخباريا او حكواتيا ولم يكن مؤرخا، فالمؤرخ هو من يمتلك رؤية وفلسفة لوقائع الأحداث وتبريرها».
حديث المرشد هذا لم يرق للحضور، حيث اصطف المتداخلون في اتجاه مضاد لما طرحه المرشد، حتى رأى محمد جواد ان السؤال عن التاجر ما اذا كان مؤرخا أم حكواتيا هو اجحاف بحقه، وهو الذي يعتبر علم من اعلام البحرين. فيما عقب توفيق الرياش على حديث المرشد الناقد لتوجه التاجر ناحية جمع الطوابع بعد كتابته (عقود اللآل)، فقال إن «هنالك حاجة للتحقيق فيما اذا كان التاجر شيخاً، أم حاجا، أما بائع للطوابع، فالشيخ ميثم البحراني كان يحرث الارض للزارعة، والمهنة لا دخل لها بالفكر الذي يحمله»، وأضاف «التاريخ يكتبه الاقوياء، وقد يكون التاجر قد حاول استغلال الموجة في ذلك الوقت لتمرير احداث معينة».
بدوره، رأى مدير الندوة حسين السماهيجي فيما ذكره المرشد «دعوة خطيرة وعريضة»، داعياً محقق الكتاب وسام السبع لان يوضح ويعقب.
هنا تداخل السبع ليرد على المرشد: «صنعة المؤرخ وشخصيته بالنسبة للتاجر، تبرز في كتاب «منتظم الدرين» اكثر من «عقود اللآل»، وبكثير، وذلك عبر محاكاته الى الروايات ومن خلال اعتماده على حشد من الوثائق والعقود العقارية، ووقفيات»، وتساءل السبع «اذا لم يكن التاجر مؤرخا فمن هو المؤرخ؟».
وواصل حديثه «أما مفردة (الحكواتي) فلها ظلال غير طيبة، ولعل الأخ المرشد يقصد بها المدون أو الراوي وحتى هذا الحكم مجحف في حق التاجر، لاني وجدته في بعض ثنايا الكتاب يعمل كمحقق للنص ويحاكمه، يفصل ما اجمل ويجمل ما فصل، ثم إن كل الكتاب تقريباً ردود على النبهاني والخيري فكيف يمكن اعتبارهم مدرسة واحدة؟ لا هم ليسوا مدرسة واحدة».
وأضاف «تبرز شخصية التاجر في موضعين أساسيين، الأول في تاريخ تاريخ القرى، فهو يفصل تفصيلات لا تجدها في (قلائد النحرين) ولا في (التحفة النبهانية)، فهو الوحيد ابن البلد، والشخص الاكثر دراية بالحرف في القرى. الامر الآخر في الموقع الاخير الذي برز فيه كمؤرخ هو عدم قبوله وتسليمه بالكثير من الروايات وان كان احيانا يشتبه فينسب آراء هي غير صحيحة».
وتابع «لا يمكن تقييم التاجر بعقلية المؤرخين اليوم، هذا صعب جدا، فاليوم بإمكانك الحصول على المعلومة بكبسة زر، وفي السابق لم يكن الأمر كذلك، أما بيعه الطوابع فليست مثلبة، بل هي شيء عظيم بحيث أن يكون لدى المرء هذا الهوس لجمع الطوابع وحب اقتناء العملات».
وفي حديث مثل دور الموازنة بين حديث المرشد من جهة والسبع والحضور من جهة أخرى، تداخل الباحث محمد حميد السلمان ليقول: «أمامنا 5 كتب اساسية في تلك الفترة، كلها ظهرت بشكل متتال، وانساقت لنفس النسق الموجود عند المؤرخين. وإزاء كل مؤرخ علينا أن نتحدث عنه بعصره».
وأضاف «اليوم حين احاكم الكتاب برؤية جديدة، فهذه رؤية خاصة، وليس شرطاً ان ما كتب صحيح، فالتاريخ هو يحكم نفسه بنفسه، وعلينا ان ننظر بهذه النظرة الفضائية الواسعة، وقد يكون الكاتب مدوناً وقد يكون مؤرخا، وهنا أشير إلى وجود مدونين برتغاليين يعتبرون من المؤرخين الأوائل، ويشار لهم بالبنان، بل إن هناك تقديسا لعمل قاموا به هو عبارة عن تدوين رحلات، وعليه فإن المسألة لا تؤخذ من منظور ان هذا مدون أو مؤرخ، فحراك التاريخ لا يتوقف».
ورداً على المرشد، بين محقق كتاب «عقود اللآل» وسام السبع ضرورة التعليق على الحديث عن «التبجيل»، فقال: «في عملنا للكتاب لا وجود لتبجيل، بل على العكس قد تكون هناك قسوة في المقدمة، لكن الواجب ان لا يأخذنا الحماس ونحاكم التاجر بمنطق اليوم. دور المحقق ان يضع النص ضمن سياقه التاريخي، أما اكتشاف النص والتعدد في قراءة زواياه فهذه مسئولية المثقفين والباحثين، علينا اخراج التراث المخطوط، وعلى الآخرين اكتشاف الحمولات الثقافية».
من جانبه، قال وسام السبع: «اعتمد الكتاب على مصادر هي (قلائد النحرين) لمبارك الخيري، و(التحفة النبهانية) لمحمد بن خليفة النبهاني، وعلى ديوان السيدعبدالجليل الطباطبائي، ويعتمد فيما يتعلق بالدولة العيونية اعتمادا تاما على ديوان ابن المقرب العيوني».
وقدم الباحث محمد حميد السلمان جملة ملاحظات إزاء تحقيق (عقود اللآل)، بينها قوله «حين نتعرض لمسألة الغزو وسيطرة القوى الخارجية والدخلية للخليج لا بد من ايجاد حدود علمية واضحة، ولا بد من تعريب المصطلحات الاجنبية قدر الامكان، أما الفصول الخاصة بثروات البحرين الزراعية والاسماك واللؤلؤ فكانت بحاجة لتوضيح معاني الكلمات والمصطلحات للقارئ الخارجي، وما لفت نظري ذكر التاجر حوالي 145 قرية بحرينية متواجدة في زمانه، وهو دليل آخر على ما ذكره ابن ماجد من وجود 360 قرية (بين ابن ماجد والتاجر حوالي 500 سنة)، وهذا دليل جديد يؤيد ما سبق».
وأضاف «لاحظت التغيير بين نسخة العام 1994 لإبراهيم بشمي ونسخة وسام السبع، هنالك فروقات في اكثر من فصل، واعتقد أن هناك تدخلا غير محمود طال أبيات شعر، وحسناً فعل السبع حين أعادها».
العدد 5382 - الخميس 01 يونيو 2017م الموافق 06 رمضان 1438هـ
الله يرحمك جدي محمد علي التاجر برحمته الواسعة والحمدلله على تركك مؤلفات تاريخية جميلة ...نفخر بك دائما