العدد 95 - الإثنين 09 ديسمبر 2002م الموافق 04 شوال 1423هـ

أين تتفق الشورى مع الديمقراطية الغربية... وأين تفترق؟

قراءة في الأنـظمة واللوائح الداخلية

عبدالله جناحي comments [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في 14 ديسمبر/كانون الأول الجاري تبدأ أولى جلسات البرلمان الوطني في غرفتيه المنتخبة والمعينة. وهنا دراسة مقارنة بين الشورى الإسلامية والديمقراطية الغربية ومدى اتفاقهما واختلافهما.

هل تختلف الشورى التي تقررها الشريعة الإسلامية عن الديمقراطية؟، هل يمكن أن تكون الديمقراطية الغربية بديلا عن الشورى؟

الإجابة عن هذين السؤالين ثار بشأنها جدل عقيم، ليس له من محصلة سوى تكرار مقولات وأسانيد واسترجاع اتهامات وأقاويل. فالحقيقة التي يجب توضيحها هي حال البلبلة والتشكيك التي تطغى على الساحة في هذا المجال، ساهم فيها فصيل من الحركة الإسلامية، لا يعي الأصول والقواعد الواجب مراعاتها عند التعرض لقضايا ذات بال من أمثال الشورى والديمقراطية. وكان من أثر ذلك أن هذا الفصيل أثمر نوعا من المصادمة على الساحة الفكرية بين الديمقراطية والشورى، ووصل ببعضه إلى حد أن اعتبر الديمقراطية كفرا أو نوعا منه، وذلك هو أكثرهم شططا. أما أمثلهم طريقة فيعدها كلمة مستوردة من الغرب وما يأتي منه لا يسر القلب. والحقيقة أن هذا خلط بين التاريخ والواقع يرتد في جملته إلى الغرب كمصدر للديمقراطية. ومن ثم فإن إنكار الديمقراطية من جانب الرافضين لها، ليس رفضا لها في ذاتها، بقدر ما هو رفض للمجتمع الذي نشأت فيه.

إضافة إلى أن الغرب ظل مقترنا بالقهر والاستعمار في الذاكرة العربية والإسلامية، فإنه كان عند كثيرين في الماضي مرادفا للفساد الأخلاقي حينا، وللكفر في أحيان أخرى. كما أن البعض في وقتنا لا ينظر إلى الديمقراطية كنظام للحكم يقوم على الحرية والمشاركة السياسية والتعددية وغير ذلك فحسب، وإنما كرمز لمشروع غربي مارس القهر والذل بحق العرب والمسلمين. فإن إنكار الديمقراطية من جانب هؤلاء لا ينبغي أن يحمل في اعتباره رفضا لذاتها، ولكنه في حقيقة الأمر رفض للمشروع الذي تمثله.

من جانب آخر يعتقد الكثيرون أن المبدأ الديمقراطي مبدأ إسلامي، وأنه لا تعارض بينه وبين الإسلام، وكتبوا كتبا زعموا فيها ذلك ويستندون في ذلك إلى أن الديمقراطية تقوم على الشورى والإسلام قد دعا إلى الشورى.

ويقول أحد الباحثين: «إن الديمقراطية في أحسن نظمها مخالفة للنظم الإسلامية، صحيح أنها تتفق معها في بعض الأسس المهمة، كحق الشعب في اختيار الحاكم، وكالمشورة، وحق الشعب في عزل الحكومة، ولكنها تختلف عنها في أساس مهم يجعل الفرق بينهما واسعا، وذلك الأساس هو أن الإسلام قدم للمسلمين كثيرا من الأحكام التي لا يمكن إهمالها، والتي هي ليست موضع شورى أو نقاش، كنظام الميراث، وكالمحرمات في الزواج وتعدد الطلقات وغيرها، كما وضع الإسلام للمسلمين مقاييس الفضائل والرذائل، في حين أتاحت الديمقراطية لأصحابها أن يضعوا كل الأحكام، وأن يرسموا لأنفسهم تلك المقاييس. وعلى هذا فالحكومة الإسلامية طابع فريد، عناصره الرئيسية منحة من الله، وقد اقتبست منه بعض النظم الحديثة بعض مميزاته، والنظام الإسلامي من دون شك يحقق لأتباعه استقرارا وحياة طيبة حميدة». وباحث آخر يقول: «يظلم الإسلام مرتين، مرة عندما يقارن بالديمقراطية، ومرة عندما يقال إنه ضد الديمقراطية. إذ المقارنة بين الاثنين خاطئة، وادعاء التنافر خطيئة، الأمر الذي يحتاج إلى تحرير أولا، واستجلاء ثانيا. والمقارنة متعذرة من الناحية المنهجية، بين الإسلام الذي هو دين ورسالة تتضمن مبادئ تنظم عبادات الناس وأخلاقهم ومعاملاتهم، وبين الديمقراطية التي هي نظام الحكم وآلية للمشاركة وعنوان محمل بالكثير من القيم الإيجابية. نعم هناك الكثير الذي يمكن أن يقال في صدد تلك المقابلة، لكن البعد الحضاري للعقيدة ينبغي أن يكون واضحا، باعتبار أن للإسلام مشروعه الحضاري الخاص، بينما الديمقراطية جزء من مشروع حضاري مغاير. وهذا الاختلاف لا ينبغي أن يحمل بمعنى التضاد أو الخصومة، حيث يظل مجال الاتفاق قائما في بعض القيم الأساسية والمثل العليا، لكنه ينبغي أن يفهم في إطار التنوع والتمايز».

كما أن الأخذ بالشورى في الإسلام، لم يكن نتيجة طلب من أحد، ولم يحتج إلى وقت للنضال والكفاح حتى أمكن إقرارها، كما هو الحال في الديمقراطية الحالية التي جاهد فيها الكثيرون، فإن الشورى في الإسلام نشأت مع نشأة الدولة الإسلامية، وتطورت بتطورها. ان نظام الشورى الذي جادت به النصوص يندرج تحت قاعدة إجمالي ما يتغير، بمعنى أنه نظرا إلى أن النظم السياسية لا تستقر على حال، ولا تقف عند شكل لا تتعداه وإنما هي دائمة التطور والتغير، وحيث أن الشورى من مستلزمات هذه النظم التي لا يقوم نظام وطيد الأركان من دونها، فقد أجملتها في النصوص، وتركت تفصيلاتها لأوضاع الأمة وظروف العصر. فالشورى في الإسلام مقيدة بالوقوف على الرأي الحقيقي للأمة وتحري المصلحة للمسلمين، كما أنها يجب ألا تتناول الأمور المنصوص عليها أو التي تعتبر من أركان الدين وشعائره، كما يجب ألا تتجاوز الإطار العام للشريعة. وهذه القيود ليس لها وجود في الديمقراطية في النظم المعاصرة، فليس هناك أديان أو نصوص تلتزم بها وتتوقف عندها.

وأحد الباحثين يقول: «انه لا تجوز مقارنة الشورى بالديمقراطية، لأنه يفضي إلى تحليل العناصر التي أسلفنا ذكرها لتعريف الشورى الإسلامية ولتعريف الديمقراطية الغربية والعناصر الأخرى وإلى المقارنة والمفارقة بينهما.

ويبدو من خلال تحليل معمق للمفاهيم التي يقوم عليها نظاما الشورى والديمقراطية أن بينهما أوجه اتفاق وأوجه خلاف، فهما يتفقان في مناهضة دكتاتورية الحكم واستبداد الحاكم وتعسفه، كما يتفقان على عدم إقرار الفتنة أو الثورة على النظام كأسلوبين للحد من سلطة الحاكم وتجاوزه لسلطته التي حددها الشارع في نظام الشورى، أو التي حددها الدستور في النظام الديمقراطي، كما أنهما يتفقان على إشراك الحاكم والمحكوم في مسئولية الحكم. فالشورى تلزم الراعي بمشورة الرعية في سياسة الدولة وتنفيذ الأحكام الشرعية، والديمقراطية تعمل على إقامة علاقة بين الشعب والحاكم على أساس الحرية لضمان العدل وحفظ الحقوق، وتهدف إلى إشراك المحكومين بوسيلة أو بأخرى في الحكم. ولكنهما يختلفان في عدة منطلقات ومفاهيم، وفيما يلي نوضح أوجه الاختلاف والاتفاق فيما بين الشورى والديمقراطية ومن ثم سنتحدث عن موقف الديمقراطية من بعض مظاهر الشورى.

أوجه الخلاف بين الشورى والديمقراطية الغربية

وهذه الأوجه إنما تنبع من كون الشورى جزئية في نظام إسلامي متكامل له فلسفته الخاصة وأهدافه الخاصة، وكذلك فإن الديمقراطية نابعة من نظام له فلسفة معينة، وقد طبق كل منهما في بيئات مختلفة.

وهنا أوجه الخلاف:

1- ان النظام الديمقراطي الذي يجعل الحكم للشعب ويجعل الشعب مصدر السلطات جميعا، وهذا يناقض الشورى الإسلامية، أو يناقض الإسلام في أخص خصوصياته، وفي أس أساسه وهو السيادة، فلا حكم إلا حكم الله في الصغير والكبير، وكل حكم يعارض حكمه فهو باطل.

فالديمقراطية تجعل السيادة في التشريع ابتداء للشعب والأمة. فالسيادة والسلطة في الديمقراطية هي للإنسان، الأمة، والشعب، أما في الشورى الإسلامية، فإن السيادة في التشريع وابتداء، هي لله سبحانه وتعالى، تجسدت في الشريعة التي هي وضع إلهي، وليست افرازا بشريا ولا طبيعيا، وما للإنسان في التشريع هي سلطة البناء على هذه الشريعة الإلهية والتفصيل لها، والتقنين لأصولها، والتفريع لكلياتها، وكذلك للإنسان سلطة الاجتهاد فيما لم ينزل به شرع سماوي، شريطة أن تظل السلطة البشرية محكومة بإطار الحلال والحرام الشرعي، أي محكومة بإطار فلسفة الإسلام في التشريع. ولذلك كان الله سبحانه وتعالى في الرؤية الإسلامية، هو الشارع لا الإنسان، وكان الإنسان هو الفقيه.

فالحاكمية في الإسلام لله وحده، لأن توحيد الحاكمية هو توحيد التشريع نفسه وهو نوع من توحيد العبادة، فلا عبادة إلا لله. إذن فلا حاكمية إلا لله وحده، لا لفرد، أو لحزب، أو لشعب. أما الديمقراطية فتجعل الحاكمية للشعب، وأن الشعب الناضج هو مصدر السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، منه وإليه يعود كل أمر من أمور التشريع، ويرون أن ذلك هو العدالة، لأن المجتمع صار يحكم نفسه بنفسه.

إذا الديمقراطية في المفهوم الغربي تمارس غالبا في سياق حكم لا ديني، ولا مجال بالطبع في الإسلام لحكم شعبي منقطع عن معاني الإيمان بالله لأن الإسلام يحيط بحركة الإنسان في معترك الحياة.

فالشورى الإسلامية تمتاز عن الديمقراطية بأنها تابعة للشريعة مرتبطة بها.

2- سلطات مجلس الشورى، مقيدة بعدم خروجها على النصوص الإسلامية المقررة، ومجال الشورى محصور فيما لا يكون فيه نص أو فيه نص ظني الدلالة يحتمل أوجها عدة في الفهم. وأما حيث وجد النص الواضح الدلالة، فالشورى إنما تكون في الرسائل التنفيذية (اللوائح والقرارات). وفي كل هذه الأمور يجب أن تكون التشريعات متفقة مع مبادئ الشريعة العامة وروحها، أما سلطات المجلس النيابي في الديمقراطية المعاصرة فيمكن أن تكون مطلقة، وصحيح أن الدستور يقيدها، ولكن الدستور نفسه قابل للتغيير. ولهذا يقال إن الأمة مصدر السلطات في الديمقراطية المعاصرة، بإطلاق، ولكن الأمة مصدر السلطات في حدود الشريعة في الدولة الإسلامية، ومصدر السلطات والسيادة فيها لله.

3- الديمقراطية تعني حكم الشعب وتعطي لممثليه السلطة التشريعية، أما الشورى فإنها تعطي أهل الحل والعقد حق إبداء الرأي في الأمور العامة المعروضة عليهم من ولي الأمر فيما لا نص فيه من كتاب أو سنة. وهم مقيدون في رأيهم بمبادئ الإسلام وقواعد شريعته، فديمقراطية الغرب مطلقة العنان والشورى مقيدة بالشرع أي بما جاء في كتاب الله وسنة نبيه (ص). فسلطة الأمة في الديمقراطية الغربية مطلقة، هي صاحبة السيادة تضع القانون أو تلغيه، تعلن الحرب أو تحتكر منابع النفط... إلخ. ولكن في الإسلام هي مقيدة بالشريعة، ملتزمة بالقانون الأخلاقي، ومقيدة بمبادئه.

4- الشورى جزء من النمط الإسلامي في حياة المجتمع المسلم وعنصر مقوم لهذا النمط يضبط مسئوليته الدينية والدنيوية بضابط القيم الإسلامية التي يلتزم بها الفرد والمجتمع في السر والعلانية. أما الديمقراطية فهي نظام بشري وتجربة حضارية عن افرازات العقل الإنساني في بحثه عن مصالحه التي تكيفها الذاتية والبيئة والقومية، ولها أصول فلسفية تختلف بين مجتمع وآخر، وبين عصر وعصر، ولها شروح تأويلات تختلف أيضا ببلاغة الدفاع وحسن العرض، ولها أنماط واسعة وتقنيات، ومهما اختلفت تصوراتها وتقنياتها فإنها تظل منتمية إلى مجال المتغيرات التي يمكن أن تعصف حتى بمبدئها، بخلاف الشورى فهي ثابتة في مبدئها وأصولها مع خضوع فروعها وتفاصيلها لقانون التطور المجتمعي.

5- إن المراد بكلمة «شعب» أو «أمة» في الديمقراطية كما هو معروف في عالم الغرب أنه شعب محصور في حدود جغرافية يعيش في اقليم واحد تجمع بين أفراده روابط من الدم والجنس واللغة والعادات المشتركة أي أن الديمقراطية مقترنة بفكرة «القومية» أو «العنصرية» وتسايرها نزعة التعصب أو العصبية. أما الإسلام فالأمة عنده تربطها وحدة العقيدة، أي في الفكر والوجدان كل من اعتنق فكرة الإسلام - من أي جنس أو لون أو وطن فهو عضو في دولة الإسلام فنظرة الإسلام إنسانية، وفقهه عالمي والعربية لسان لا دم، والدين كالعلم لا وطن له.

6- إن أهداف الديمقراطية الغربية هي أغراض دنيوية أو سادية، ولكن أهداف النظام الإسلامي يجمع إلى ذلك أغراضا روحية هي الأسمى والغاية كما أنها تجعل الدين أو القانون الأخلاقي المقياس الذي تقيس به أعمالها، وكل تصرفاتها.

7- الديمقراطية الغربية تعني وجود حزب للحكومة وحزب آخر أو أكثر للمعارضة ويعقد كل منهم المؤتمرات الحزبية ليضع خطة العمل السياسية. كما يستبيح كل حزب فيها استخدام الوسائل التي تساعد على نجاحه في الانتخاب مهما كانت منافية للخلق والفضيلة، ويشترون أصوات الناخبين بالمال إلى غير ذلك. أما الشورى في الإسلام فإن أهل الحل والعقد لا ينقسمون إلى أحزاب ولكنهم حزب واحد هو حزب الله يعرض عليهم الحاكم الأمر فيدلي كل واحد منهم برأيه، إما مؤيدا إياه أو معارضا له بما يراه الحق ثم يوازي الحاكم بين الحجج الموافقة والمعارضة ويعرض عليهم ما عنده من الدليل ويبين رأيه، فإذا انتهوا إلى رأي أو انتهى أكثرهم واختاره الحاكم فإنهم يسلمون به جميعا، ولا يستمر المعارضون في معارضتهم بل يذعنون الرأي المختار ويرضون العمل به وإن كان في نظرهم رأيا مرجوعا. وليس في برلمان الحكومة الإسلامية حزب حكومي وحزب معارض بل الجميع حزب واحد. والشورى لا تبيح للشخص أن يدعو إلى نفسه ليكون عضوا في مجلس الشورى بل يختارونه لأهليته ومكانته والأصل في هذا ما جاء في الحديث: «إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا سأله أو حرص عليه».

8- في النظام الديمقراطي الغربي يعبر الشعب عن آرائه عن طريق ممثليه المنتخبين ولا تعود له عليهم رقابة إلا بعد نهاية نيابتهم التي قد تمتد سنوات، فهو نظام يشجع تعدد الرأي. أما الإسلام فيرى عدالة الحكم في الجماعة المتمسكة بأصول واحدة ذات الثقافة الواحدة والقيم الدينية المشتركة.

9- الشورى الإسلامية مرتبطة بقيم أخلاقية نابعة من الدين نفسه، ولذلك فهي ثابتة غير خاضعة لتقلبات الميول والرغبات، ومن ثم فهي تضبط وتحكم تصرفات الأمة ورغباتها، بينما لا تستند الديمقراطية الغربية إلى مثل هذه القيم الثابتة، بل هي قيم نسبية تتحكم فيها رغبات وميول الأكثرية.

10- إن الشورى في الإسلام ليست ممارسة سياسية معزولة وإنما هي منهج حياة ونظام مجتمع، فهي في الشعائر وفي الأسرة وفي الجوار وفي المعاملات الاقتصادية وفي السياسة وفي العلم وفي العلاقات العامة الداخلية والخارجية، وهذا يعني شيئا كثيرا إذ ان الديمقراطية تعبير سياسي وشكل زائف وفرص غير مقدور عليها بسواء. وقد يكون السواد الأعظم من الناس متكئا على الزعامات والقيادات السياسية فلا يمارسون حرياتهم ولا يؤدون وظائفهم السياسية باستقلال بل ينزلون عنها للآخرين شأن المستضعفين الذين ركنوا إلى ضعفهم. فلابد إذن من تحقيق المشاركة الشعبية في الحكم بأن تفشى الشورى في الحياة كلها وتتصل بنظمها كافة وتتكامل مع منطق المشاركة في العبودية وفي المعاملة والثروة والعلم ونحو ذلك.

11- ان الشورى في الإسلام وردت بأمر مقرر في القرآن والسنة المطهرة وطبقها الرسول (ص) وخلفاؤه من بعده، وكان الأخذ بها أمرا واجبا من دون طلب أو إلحاح أو نضال من فرد أو جماعة كما هو الحال في الديمقراطية التي طالما جاهد في سبيلها كثير من المصلحين وأصحاب الفكر.

12- الحقوق والحريات العامة في الشورى الإسلامية تختلف عن الحقوق والحريات العامة في الديمقراطية الغربية، من ناحيتين:

الأولى: إن هذه الحقوق والحريات تتحول إلى واجبات اجتماعية ودينية وتأخذ طابع (الوظيفة الاجتماعية) المرتبطة بتحقيق المقاصد الشرعية وبتوازن يحقق مصلحة الفرد والجماعة، من دون طغيان أحد الجانبين على الآخر. ثم إن المواطنين يجب أن يتمتعوا بهذه الحقوق وإلا أثموا للترك والتقاعس، بينما كانت الديمقراطية المعاصرة ولاتزال تأخذ موقفا سلبيا وتغالي في تغليب الجانب الفردي، وحتى بعد ظهور الاتجاهات الاشتراكية فإن موقفها لايزال سلبيا في غير جانب الحقوق الاجتماعية.

الناحية الثانية: إن هذه الحريات موصوفة ومقيدة في الإسلام بضوابط من الشريعة نفسها. وأما في الديمقراطية المعاصرة فهذه الحقوق مطلقة ولا يحدها إلا ضابط عدم الإضرار بالغير، والقانون، ولكن القانون نفسه متغير.

ففي النظام الديمقراطي للفرد حرية التملك. أي حق التملك بأية وسيلة، فله أن يجمع ثروته عن طريق التعامل بالربا، أو الاتجار بالخمر وغيره من الوسائل غير المشروعة، وهذا ما يرفضه النظام الإسلامي، الذي لا يسمح للفرد بأن يتاجر في أشياء محرمة. كما أن الفرد في ظل الديمقراطية له أن يعتقد ما يشاء حينما يشاء، فيمكن أن يكون اليوم مسلما، ويمكن له أن يرتد ويصبح ملحدا، من دون أن يقام عليه حد الردة، وهذا ما يرفضه الإسلام الذي وضع حدا لهذه الردة. إضافة إلى ذلك في ظل النظام الديمقراطي يمكن للإنسان الملحد أو الكافر أن يدعو إلى عقيدته الفاسدة من دون قيد أو شرط، والإسلام يرفض ذلك، لأن الدولة الإسلامية دولة عقدية، عقيدتها الإسلام، تدعو إليها ولا تسمح لأصحاب العقائد الفاسدة بأن يدعوا إلى عقيدتهم. وليس معنى ذلك كله أن الإسلام يصادر حرية الرأي، على العكس فالإسلام يحترم حرية الرأي، ولكنها الحرية المقيدة بالحلال والحرام.

13- الشورى الإسلامية مرتبطة بقيم أخلاقية نابعة من الدين نفسه، ولذلك فهي ثابتة غير خاضعة لتقلبات الميول والرغبات، ومن ثم فهي تضبط وتحكم تصرفات الأمة ورغباتها. بينما لا تستند الديمقراطية الغربية إلى مثل هذه القيم الثابتة، بل هي قيم نسبية تتحكم فيها رغبات وميول الأكثرية.

14- إن الشورى قررت في الأساس بمقتضى نصوص حاكمة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة قولا وعملا، واتبعها الخلفاء الراشدون والسلف الصالح من بعدهم، لكن من الملاحظ أن الهدف الرئيسي من الشورى مقيد باستبانة الرأي الحقيقي للأمة وتحري صالحهم العام، في الإطار العام للشريعة الإسلامية، هذا فيما لم يرد فيه نص، أما ما ورد فيه نص فيمتنع فيه الشورى، أما الديمقراطية باعتبارها نظاما سياسيا معاصرا فليس هناك نصوص أو أديان تقيدها أو تلتزم بها.

15- تعتمد الديمقراطية الفصل بين السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية، وترى في مبدأ الفصل بين هذه السلطات ضمانا لحريات الأفراد بتوزيع سلطات الدولة بين هيئات مختلفة لئلا تجتمع في يد واحدة. وإذا كان من غير الممكن فصل السلطات فصلا تاما بل يتعين وجود توازن وتعاون فقد سعت بعض الدساتير إلى تعزيز سلطة رئيس الدولة وهو المسمى «بالنظام الرئاسي»، وأخذ بعضها الآخر بالتوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية وهو «النظام البرلماني»، وكل هذا يدخل في أنظمة الديمقراطية الليبرالية، أما في النظام الماركسي فهو يعتمد في تصوره على وحدة السلطة، ولذلك لا مكان فيه لمبدأ فصل السلطات. أما الإسلام فالشريعة الإلهية الإسلامية هي مصدر السلطة التشريعية، وجميع السلطات البشرية إنما هي سلطات تنفيذية تابعة وخاضعة للأولى، ويشكل نظام الشورى أساسا لحفظ التوازن ورقابة السلطة القضائية والتنفيذية، ولكن السلطة القضائية في الإسلام تتمتع بالحصانة اللازمة لاستقلالها عن السلطات الأخرى وحمايتها من التدخل لإملاء الأحكام عليها.

16- البرلمان في الديمقراطية الغربية: هو السلطة الحكومية التي تتولى مهمتي التشريع والرقابة على السلطة التنفيذية ويتكون من مجلسين هما:

أ- مجلس النواب: وعادة ما تظهر فيه الصفة النيابية بصورة أكبر، ما يجعل اختصاصاته أهم وأكثر، ولا يشترط في المرشحين لعضويته أي شرط يتعلق بدرجة العلم أو الاتصاف بالعدالة أو التوقي أو حتى الصلاحية الفعلية للقيام بمهمات عضو البرلمان.

ب- مجلس الشيوخ: وعادة ما يطلق عليه المجلس الأعلى نظرا إلى ما قد يتوخى في اختيار أعضائه من الخبرة وتقدم السن. غير أن اختصاصاته في كثير من الأنظمة أصبحت أقل نظرا إلى أنه أقل تمثيلا للشعب من المجلس الأول من حيث اختيار أعضائه.

أما البرلمان الإسلامي... فيتكون من أهل الشورى، وهم أعلم الناس وأتقاهم، الذين يستطيعون ممارسة السلطة بدراية وحكمة وزهد وخشية. وهم يتقيدون في ذلك بقواعد الشريعة الإسلامية التي ارتضاها الشعب نفسه دينا ودستورا. كما أنهم يتولون مراقبة الحكام والمسئولين التنفيذيين.

ويقول أحد الباحثين: «يقوم أهل الشورى بمهمات دستورية نيابة عن الناس، وتكون صفتهم النيابية واضحة الأساس إذا تم اختيارهم بواسطة ذويهم أو كانوا زعماءهم. فإذا لم يكونوا كذلك فإنهم يمثلون الشعب أيضا لأنهم لا يمارسون اختصاصاتهم المتصلة بشئون الحكم لحسابهم، وإنما يمارسونها نيابة عن الشعب. وليس من اللازم قانونا أن تكون للأصيل دائما إرادة في اختيار نائبه، فالنواب الذين يعينهم رئيس الدولة - في كثير من الأنظمة الدستورية الحديثة - يعتبرون نوابا عن الشعب على رغم عدم انتخابهم وناقصوي الاهلية - في القانون الخاص - لابد لهم من اختيار نوابهم القانونيين وكم يشبه غير مكمّلي الاهلية غير ذوي المعرفة من المواطنين في كون كل من الطائفتين يحتاج إلى من يدير له شئونه ممن هم أكثر منه علما وإدراكا. وإلى جانب أهل الشورى يوجد نواب الشعب أو عامة الناس، ويرجع إليهم في بعض الأمور العامة لاستطلاع آرائهم فيها. وذلك إذا كانت هذه الأمور تمسهم مباشرة ولديهم القدر الكافي من العلم بها لإمكان الحكم عليها».

ومعنى ما تقدم ذكره أن ما يقابل البرلمان في الإسلام يتكون - وفق مصطلحات أنظمة الحكم الحديث - من مجلسين هما:

أ- مجلس الشورى: ويضم صفوة من القوم من المفكرين والعلماء والحكماء وهو الذي يقوم بالجانب الأكبر من وظائف البرلمان، على رغم عدم اشتراط اختيارهم عن طريق الانتخاب.

ب- مجلس نواب الشعب: ويتكون من زعماء الناس ونوابهم الذي يختارونهم لتمثيلهم، ويرجع إليه في بعض الأمور الميسرة التي تمس حقوق الناس بصورة مباشرة.

17- مراقبة الحاكم في تطبيق الدستور والقوانين والأنظمة، فالشورى رقابة مستمرة للراعي فيما يقدم عليه من أعمال، وفيما لا يهتم به كذلك من الأعمال. فأهل الشورى يستشيرهم الحاكم ويشيرون عليه أو يثيرون همته لمعالجة الموضوعات التي يشعرون جميعا بمسئوليتهم عنها. كما أن الشورى تراقب الحاكم في طريقة التنفيذ واختيار العاملين والموظفين، وتراقب أعمالهم وسلوكهم. ويبيح نظامها عند نزوع الراعي إلى المعصية أو الزيغ عن السبيل السوي أن تتخلى الرعية عن طاعته وتحرر رقبتها من ذمته. أما الديمقراطية، فالرقابة دستورية تخضع لتقنيات إدارية. فقد تكون رقابة دستورية القوانين لضمان أن تكون القوانين بمطابقة للدستور، أو تكون رقابة شرعية القوانين أي كافلة مطابقة اللوائح والقرارات التنظيمية للدستور والقوانين التي تعلو عليها بحسب الترتيب الهرمي للقوانين والتشريعات والتنظيمات. ولا شك في أن يقظة ضمير المسلم تجعل رقابة الشورى أشد حزما من رقابة الديمقراطية. فهي رقابة غير مداهنة أو حذرة أو وجلة لأنها مدعمة بالنص الشرعي واليقين الديني.

مما سبق ذكره يمكن القول انه لا مجال للمقارنة بين النظامين لأن لكل منهما منظوره الخاص وإن التقيا في الأهداف العامة

إقرأ أيضا لـ "عبدالله جناحي"

العدد 95 - الإثنين 09 ديسمبر 2002م الموافق 04 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً