من نافذة في الطابق الرابع من أحد المباني السكنية تطل امرأة، رأسها مربوطة بقطعة من القماش الوردي، تنظر إلى الأرض البعيدة أسفل المبنى، تتشبث بحافة النافذة، وفي الخلفية تعلو أصوات صراخ تطلب منها العودة إلى داخل الشقة، لكنها تقفز من النافذة، يتردد صراخاها لأربع ثوان، قبل أن تسقط على أرض الشارع.
بث هذا الفيديو على شاشة قناة الجديد في لبنان في شهر مارس/ آذار، مع تعليق صوتي يشرح أن تلك المرأة كانت عاملة إثيوبية تعمل في أحد المنازل في خلده، وهي منطقة جنوب بيروت.
ووفقاً للإحصاءات التي حصلت عليها شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين) من مديرية الأمن العام في لبنان، تصل حالات عاملات المنازل المهاجرات اللاتي يلقين حتفهن في البلاد إلى حالتين أسبوعياً. والعديد من حالات الوفاة عبارة عن انتحار أو محاولة هرب فاشلة تفضل فيها العاملات المهاجرات القفز من المباني بدلاً من مواصلة العمل في أوضاع مُسيئة واستغلالية.
وكانت منظمة هيومن رايتس ووتش قد ذكرت في تقرير صدر عام 2008 بعنوان حالة عاملات المنازل المهاجرات في لبنان، أن معدل حالات الوفاة يبلغ حالة واحدة كل أسبوع. ومنذ ذلك الحين، يبدو أن تنامي حملات الناشطين والمناصرين لهذه القضية لم تتمخض عن أثر يُذكر. وقد تم إعادة جثامين 138 عاملة منزلية مهاجرة في الفترة الممتدة من يناير 2016 إلى أبريل من هذا العام.
وتدعو جماعات حقوق الإنسان إلى توفير حماية أفضل للعمالة المهاجرة في لبنان منذ سنوات، وفي عام 2014 تمكنت العاملات في المنازل من تشكيل اتحاد خاص بهن، هو الأول من نوعه في المنطقة. مع ذلك، لم يتغير الكثير، إذ لا تزال العاملات القادمات من إثيوبيا وبنجلاديش وسريلانكا والفلبين وكينيا وغيرها من البلدان النامية رهن نظام الكفالة الذي يعطي أصحاب العمل السيطرة الكاملة على حياة العمال.
التعرض للضرب والانتهاك الجنسي
هربت رهوا*، التي تبلغ من العمر 37 عاماً وهي من إريتريا، بعد قضاء خمس سنوات كخادمة لعائلة ثرية في العاصمة اللبنانية طرابلس. لم تكن تحصل على مرتب، ولا على أيام إجازة، وتنام على أرضية المطبخ. وقد تعرضت للضرب من "سيدتها" والتحرش الجنسي من زوج تلك السيدة. وعن تجربتها هذه، قالت رهوا، التي لم يُسمح لها بالاتصال بأسرتها في إريتريا: "كانت الحياة كالجحيم". ورهوا الآن من ضمن اللاجئات المسجلات وترأس بصفة غير رسمية كنيسة العمال المهاجرين الإثيوبيين في بيروت. وقالت لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين) أن العديد من النساء اللاتي يأتين إلى الكنيسة يشعرن أنهن سجينات ظروف العمل المنزلي. وأضافت: "الكثيرات منهن يصبن بالجنون. وحتى عندما يهربن، يعيشن في غرف مكتظة مع ستة أو سبعة أشخاص. وهذا يجعل المرء يصاب بالجنون أيضاً".
وتتزامن الزيادة في معدل وفيات العاملات المهاجرات مع انخفاض في التقارير العامة والاستقصاء. والمنظمة غير الحكومية الوحيدة التي تنشط في مجال إحصاء وفيات عاملات المنازل المهاجرات هي كفى، وهي منظمة حقوقية شكلتها سيدات لبنانيات، وتعتمد على التقارير الإخبارية المحلية لمعرفة الحالات. وقد حددت ما بين 10 إلى 12 حالة سنوياً في المتوسط منذ عام 2010، ولم تكتشف الزيادة التي حدثت مؤخراً.
في السياق ذاته، وفي مركز للمهاجرين في بيروت، قالت راحيل زيجي، البالغة من العمر 37 عاماً، وهي متطوعة إثيوبية تعمل مع حركة مناهضة العنصرية المؤيدة لحقوق المهاجرين، أنه من الصعب توثيق حالات الانتحار لأن العديد من النساء اللواتي يتوفين لم يتركن منازل أرباب عملهن أبداً. وقد حاولت زيجي متابعة العديد من حالات الانتحار ولكنها قالت أنها "لا تملك سلطة مطالبة الحكومة هنا بأي شيء". وقد استعرضت صوراً على هاتفها لعاملات منازل إثيوبيات مصابات: كانت بعضهن فاقدات للوعي ومصابات برضوض، وبعضهن حوامل أو مرضى، أو ينزفن على الأرض، كلهن من النساء، والكثير منهن، كما قالت زيجي، قد توفين منذ ذلك الحين.
أزمة غير مرئية
وعلى الرغم من أن إثيوبيا منعت هجرة اليد العاملة إلى منطقة الشرق الأوسط، إلا أن النساء المهاجرات يواصلن الهجرة بصورة غير مشروعة من هناك كل يوم. وفي ظل أنهن يعشن بعيداً عن الأعين وغير مسجلات رسمياً، فإنهن يجدن أنفسهن حبيسات ظروف العمل التي كثيراً ما تنتهي بتعرضهن للاعتداء، أو السجن، أو الترحيل أو حتى الموت. وحول هذا الوضع، قالت زيجي: "الكثير من الإثيوبيات يأتين إلى هنا... لماذا لا توقفهن الحكومة اللبنانية؟ جيل الشباب يموت هنا".
من جانبها، قالت مايا عمار، المسؤولة الإعلامية في كفى، أن المنظمة حاولت جمع المزيد من المعلومات حول وفاة المهاجرات، التي ترد في وسائل الإعلام من الأمن العام، "لكن الملف يغلق بعد 24 ساعة، مع عدم إجراء مزيد من التحقيق. نحن لا نعرف الفتاةـ أو اسمها، أو أسرتها أو كيفية الوصول إليها. نتصل بالسفارة الإثيوبية، لكنها لا تتعاون كثيراً معنا. لا أحد يتابع الأمر".
وقد رفض جهاز الأمن العام التعليق على أسباب الوفيات، ولم يتسن الاتصال بوزارة العمل للتعليق.
كما رفضت حليمة محمد، القنصل العام لإثيوبيا في لبنان، مناقشة تفاصيل حالات الوفاة، قائلة أنه لا يوجد هناك سوى عدد قليل كل عام، وأن السفارة الإثيوبية لا يمكنها الضغط على السلطات اللبنانية للتحقيق أو المحاكمة. وتعليقاً على ذلك، قالت لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين): "إذا توفت فتاة، نحن نبحث دائماً عن تقرير. ولكن في بلد لا يوجد فيه حكم القانون أو المساءلة، كيف لك أن تثق [فيه]؟ لا يمكنك التحقق من أي شيء". وأضافت: "تقبع تلك الفتيات في المنازل لسنوات. إنهن شابات وليس لديهن معرفة بكيفية حماية أنفسهن".
حظر سفر غير فعال
والنهج الذي تتبعه إثيوبيا لمنع مواطنيها من الذهاب إلى العمل في لبنان قد جُرّب في نيبال والفلبين ومدغشقر في أوقات مختلفة. مع ذلك، فقد ارتفع عدد عاملات المنازل المهاجرات إلى لبنان من أقل من 130,000 في عام 2014 إلى ما يقرب من 170,000 في عام 2016، وفقاً لوزارة العمل، وهذا الرقم لا يتضمن اللواتي يصلن دون تصاريح عمل رسمية. وحول هذا النهج، قالت حليمة محمد: "لقد منعنا إرسال الفتيات العاملات إلى كافة أنحاء الشرق الأوسط قبل عامين، ولكن بطريقة غير رسمية، هناك اتجار". وأوضحت أن الإثيوبيين يستطيعون القدوم بسهولة كسائحين، أو عبر بلدان ثالثة، ومن ثم يحصلون على تأشيرة عمل بعد وصولهم إلى لبنان.
وتعليقاً على الموضوع ذاته، قالت زينة مزهر من منظمة العمل الدولية أن حظر السفر في الواقع يزيد من قابلية تعرض العمال المهاجرين للخطر. وأفادت لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين): "نحن غير داعمين على الإطلاق لحظر السفر في بلدان المصدر. فهذا يعرّض المهاجرين لخطر أكثر من حيث الاستغلال والاتجار بالبشر".
وبدلاً من ذلك، تدعو منظمة العمل الدولية لعقد اتفاقات ثنائية شاملة بين دول المصدر والوجهة لتنظيم عمليات التوظيف والهجرة وظروف العمل. ينبغي أن تضع مثل هذه الاتفاقات "حقوق المهاجرين في بؤرة اهتمامها".
لا توجد صفة قانونية
إضافة إلى ما سبق، ترى فرح سيلكا، المدير التنفيذي لحركة مناهضة العنصرية، أنه لا يوجد لدى الحكومة اللبنانية اهتمام قوي أو قدرة على تغيير نظام العمال المهاجرين: "ليس هناك شيء يسمى قانون عمال المنازل المهاجرين هنا. الأمر لا يتعلق بأن هناك قانون سيء، بل لا يوجد قانون" بالأساس.
عمال المنازل مستثنون من قانون العمل في لبنان، ما يعني أن ليس لديهم أي ضمانات للحصول على الحد الأدنى من الأجور، وأيام العطلات، أو طلب المساعدة في حالات حجب المرتبات، الاعتداء الجنسي، أو اللفظي أو الجسدي. بدلاً من ذلك، يوجد لديهم نظام الكفالة ينص على أن العمال المهاجرين يجب أن يعيشوا مع أرباب عملهم، ولا يمكن تغيير أماكن العمل دون موافقة أرباب العمل.
وكثيراً ما تسعى العاملات لطلب المساعدة من وكالات توظيفهن، لكن غالباً ما تكون النتيجة هي التجاهل أو المزيد من الاستغلال. بعد أن تعرضت تينيسيا*، وهي كينية تبلغ من العمر 22 عاماً، للضرب والحبس داخل المنزل من قبل رب عملها، طلبت المساعدة من الوكالة التي وظفتها. لكن بدلاً من أن تقدم لها يد العون، صادرت جواز سفرها، وأرسلتها للعمل مع أسر أخرى دون أجر. وتوضيحاً لمعاناتها، قالت تينيسيا: "طلب الوكيل مني أن انتظر وأعمل، وسيتم توفير المال لشراء تذكرة العودة إلى دياري". عملت تينيسيا لعام وأربعة أشهر أخرى قبل أن تتصل بالسفارة الكينية، التي ساعدتها على الهرب إلى مأوى للسيدات تديره منظمة كاريتاس. ولا تزال لا تملك جواز سفرها أو المال اللازم لشراء تذكرة للعودة إلى وطنها.
تقدم المنظمات غير الحكومية بعض المساعدة للعمال المهاجرين، ولكن إحداث تغييرات حقيقية لظروفهم يتطلب تغييراً في نهج السياسة من القمة إلى القاعدة، الذي لا يشكل أولوية للحكومة اللبنانية وفقاً لعمار من منظمة كفى، التي قالت: "ليس هناك أي نية على الإطلاق لإعادة النظر في نظام الكفالة. الحكومة والأمن العام على اقتناع بأنه يحمي العامل عبر السيطرة عليه ... هناك الكثير من الافتراضات العنصرية، على سبيل المثال، أن هؤلاء النساء ضعيفات ويحتجن إلى البقاء مع أسرة".
التعبير عن قضاياهن
أنشئت نقابة عاملات وعمال المنازل في أواخر عام 2014 تحت مظلة الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين في لبنان، بهدف تمكين عمال المنازل من حماية أنفسهم والتعبير عن قضاياهم، حسبما قالت فرح عبدالله، وهي ممثلة من الاتحاد. لكن نظراً لأنه لا يسمح للمهاجرين بتشكيل نقابات في ظل القانون اللبناني، فإن رئيس الاتحاد لبناني ويتيح لعمال المنازل المهاجرات فقط سبل الوصول إلى اللبنانيين، الذين يمكنهم التحدث باسمهم.
وتوضيحاً لذلك، قالت إيدان تيجانو، 44 عاماً من الفلبين، رئيس الجمعية العامة للاتحاد: "نحن نبلغ المشكلات إلى الاتحاد الوطني، وهم يتحدثون إلى أرباب العمل". جاءت تيجانو إلى لبنان في عام 2012 كعاملة مهاجرة ولكنها تركت عملها بعد ستة أشهر لأنها لم تحصل من صاحب العمل على مرتب أو إجازة. ووفقاً لنظام الكفالة، تعتبر الآن هاربة وتقيم بصورة غير قانونية. وحول معاناتهن، قالت تيجانو: "ليس لدينا أوراق، ومن ثم لا نستطيع الإبلاغ عن مشكلاتنا. وإذا أبلغنا الشرطة أن أرباب العمل لا يعطوننا مرتباتنا، فسوف يقبضون علينا".
وفي ديسمبر/ كانون الأول الماضي، رحّلت السلطات اللبنانية عاملة مهاجرة من نيبال وناشطة تدعى سوجانا رانا في اليوم الدولي لحقوق الإنسان، وطردت مهاجرة نيبالية أخرى تدعى روجا ليمبو، بعد ذلك ببضعة أيام. وكان لدى المهاجرتين تأشيرة عمل وتتمتعان بصفة قانونية، بل كانتا من بين أعضاء الاتحاد المعروفات وناشطات في المجتمع، الأمر الذي ترى منظمة هيومن رايتس ووتش أنه كان السبب في ترحيلهن.
والجدير بالذكر أن الخوف من الاعتقال التعسفي والترحيل يحد من قدرة العاملات المهاجرات على الدعوة إلى إجراء إصلاحات قانونية وتوفير ظروف عمل أفضل. وختاماً، قالت سلكا، المدير التنفيذي لحركة مناهضة العنصرية: "لا أحد يرغب في تحمل المخاطر من أي نوع فيما يتعلق بتنظيم الفعاليات". لا تستطيع معظم عاملات المنازل المهاجرات، اللاتي لا يزلن مع أرباب عملهن، مغادرة المنزل، ومن ثم فإن معظم من يمكنهن الحضور والمشاركة في الفعاليات مثل المسيرات هن في الغالب "هاربات" ويقمن بصورة غير قانونية، وبالتالي عرضة للخطر. "ماذا يحدث لو أن لدينا وقفة احتجاجية على ضوء الشموع تشارك فيها 20 عاملة، ثم جاءت الشرطة وقبضت عليهن؟ ما الذي بوسعنا أن نفعله من أجلهن؟ لا شيء".