العدد 94 - الأحد 08 ديسمبر 2002م الموافق 03 شوال 1423هـ

أميركا: انفصام الشخصية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

هل تستطيع الولايات المتحدة العودة إلى فترة السبعينات وما قبلها من القرن الماضي؟ آنذاك كانت الإدارة الأميركية في شكليها الجمهوري والديمقراطي تتدخل في كل الأمور في دول العالم الثالث من طريق تنظيم الانقلابات العسكرية أو الاغتيالات أو إرسال قوات تخوض معركة قصيرة الأمد... وأحيانا كانت تستدرج إلى حروب طويلة تستنزف قواها المادية والبشرية كما حصل مرارا في الخمسينات (كوريا) والستينات والسبعينات (فيتنام، لاوس، كمبوديا).

آنذاك كانت الإدارة الأميركية تعتبر نفسها زعيمة «العالم الحر» ومن واجبها الأخلاقي حماية «الديمقراطية» و«الدفاع عن الحلفاء والأصدقاء» لمواجهة ما كانت تطلق عليه «الخطر الشيوعي» و«التمدد السوفياتي» إلى المياه الدافئة.

إلا ان تلك السياسة وصلت إلى أفق مسدود. فواشنطن التي لعبت دور القائد التاريخي لمجموعات اقتصادية ومعسكرات سياسية كسبت منها المال في صفقاتها التجارية وبيع منتوجاتها ومعداتها الحربية... دفعت الكثير من الضحايا الأمر الذي أثار الرأي العام الداخلي وأطلق حركة مدنية أميركية ضغطت على الإدارة لوقف تدخلاتها في الخارج.

في تلك الفترة تحالفت مجموعة قوى أميركية لوقف عمليات التدخل العسكري المباشر في شئون العالم الثالث. كذلك ضغطت تلك التحالفات على الإدارة لتطوير السياسة الداخلية وجعلها أكثر إنسانية وأقل عنصرية. آنذاك وقبل السبعينات كانت القوانين التعسفية عنصرية على مستوى الولايات وتعاكس المنهج العام للدستور الأميركي. فالولايات كانت تمنع السود (الأفارقة) من التصويت في الانتخابات وتمنع عليهم استخدام وسائل النقل الخاصة بالبيض وكانت تفصل السود في مدارس مستقلة وفي حال وجدت مجموعة من السود في مدرسة البيض كان يمنع على الطالب ان يشرب من المكان المخصص للبيض أو يجلس أو يأكل في المطاعم نفسها.

الولايات المتحدة كانت تمر في فترة «انفصام» في الشخصية، ففي وقت كانت تقود «العالم الحر» عالميا وتدّعي حمايتها للديمقراطية وحقوق الإنسان وتكافح «الخطر الشيوعي» في آسيا وافريقيا وأميركا اللاتينية اتبعت الولايات أسوأ أساليب التمييز العنصري والفصل بين الأعراق والهويات والألوان والديانات. وفي وقت كانت تعلن في صحفها وإعلامها احترام حرية الإنسان وخياراته كانت تلجأ إلى أقذر الأساليب المخابراتية في تنظيم الاغتيالات العسكرية والسياسية بذريعة منع «الاتحاد السوفياتي» من الانتشار خارج نطاق دائرته الجغرافية ومعسكره السياسي.

هذه الازدواجية (الانفصام في الشخصية) على المستويين الداخلي والخارجي ضغطت على الإدارات الأميركية وفرضت عليها مراجعة قوانينها وخططها وترتيب بيتها أولا قبل الادعاء انها تريد تربية شعوب العالم وتدريبهم على احترام حقوق البشر واعتبار الناس سواسية.

آنذاك، في الستينات، وصلت التفرقة العنصرية في الولايات الأميركية إلى حد كادت ان تثير سلسلة حروب أهلية. كذلك وصل التدخل الأميركي في شئون العالم إلى أعلى درجاته. وكان على الأسود (الافريقي) ان يقاتل في الجيش الأميركي وعندما يعود إلى بلاده يحرم من حقوقه المدنية. هذه الازدواجية كادت ان تفجر الولايات المتحدة من الداخل، إذ كيف يعقل ان يفرض على الأسود «خدمة العلم» ولا يحق له بعد انتهاء خدمته التصويت أو الترشيح أو حتى التعلم والتنقل أو استخدام الأمكنة التي يذهب إليها الأبيض. كانت الولايات المتحدة منتشرة عالميا وبيتها الداخلي تهدده النيران. ولذلك اضطرت إدارة ليندون جونسون حسم تلك الازدواجية بإصدار سلسلة قرارات أعطت السود (الافارقة) حقوقهم المدنية. لم تكن قرارات جونسون آتية عن محبة وإنسانية وشفقة، بل جاءت تلبية لحاجة. فأميركا كانت بحاجة إلى السود لاستخدامهم في معاركها الخارجية، وأيضا كان عليها تقديم التنازلات خوفا من انفجار البلاد وتبعثر قواها المحلية على معارك أهلية.

الحاجة إذا فرضت على الإدارة إعادة النظر في قوانين الولايات المحلية في الستينات والحاجة أيضا فرضت عليها إعادة النظر في سياسات التدخل العسكري في العالم في السبعينات، فاضطرت إلى الانسحاب من فيتنام ولاوس وكمبوديا في عهدي نيكسون وفورد واللجؤ إلى إدارة الأزمات عن بعد كما حصل في انقلاب تشيلي ضد الرئيس المنتخب ديمقراطيا سلفا دور الليندي.

الآن تحاول واشنطن العودة مجددا إلى تلك الفترة مستفيدة من الفراغ الدولي واختلاف المعايير وتماسك وضعها الأهلي - الداخلي. والسؤال هل تستطيع المغامرة مرة أخرى أم ان الحاجات الداخلية ستضغط عليها من جديد ولأسباب مختلفة عن تلك في الستينات والسبعينات؟

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 94 - الأحد 08 ديسمبر 2002م الموافق 03 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً