فَقَد العرب والمسلمون يوم الاثنين الماضي (22 مايو/ أيار 2017)، صديقاً وكاتباً ومُترجماً كبيراً برحيل المستعرب البريطاني المُسلم دنيس جونسون ديفيز (عبدالودود) عن عمر ناهز الـ 95 عاماً، مخلِّفاً وراءه أكثر من أثر مُتميِّز؛ سواء على مستوى تقديم كبار الأسماء الأدبية والإبداعية في الوطن العربي منذ أربعينيات القرن الماضي؛ إذ يُعدُّ أول مترجم للأدب العربي الحديث الى اللغة الإنجليزية، بإنجازه ترجمات لأعمال كتَّاب ومبدعين كبار من أمثال: نجيب محفوظ، يوسف إدريس، الطيب صالح في روايته «موسم الهجرة إلى الشمال»، توفيق الحكيم، محمود تيمور، يحيي حقي، غسان كنفاني، زكريا تامر، يوسف الشاروني، وغيرهم، أو على مستوى إنجازه ترجمة للقرآن الكريم و 4 أنطولوجيات تضمنت قصصاً قصيرة مصرية وعربية، يضاف إلى كتاب عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وصدر باللغة الإنجليزية.
قال ذات حوار صحافي في العاصمة (أبوظبي): «لا توجد لي علاقة مع إنجلترا مُطلقاً منذ زمن طويل ولم أحبّها منذ طفولتي»، وسيكشف ديفيز في ثنايا هذا التقرير عن تفاصيل تلك القناعة التي جعلته يختار كبرى العواصم العربية (القاهرة) مكان إقامة دائمة، وشعوره بالنفور والنأي شبه الدائم عن مكانه الأول.
من بين الأمور التي تثير حفيظته وتزعجه تصنيفه باعتباره مستشرقاً؛ إذ يرى نفسه ينتمي بكل ما في الكلمة من معنى إلى هذا الجزء من العالم: العالم العربي والإسلامي، حتى قبل أن يُشهر إسلامه، بذلك الذوبان والتوحّد بالثقافة والتاريخ والإبداع العربي قديمه وحديثه. ربما نقف على شيء من ذلك من خلال مباشرته في الإجابات التي يُدلي بها في عدد من الحوارات، ومن بينها ما أجراه الصحافي عبدالحيّ محمد، في العاصمة الإماراتية (أبوظبي)، حين سأله: هل تزور إنجلترا، وهل لك علاقة بمؤسّساتها الأكاديمية؟ أجاب: «لا توجد لي علاقة مع إنجلترا مُطلقاً منذ زمن طويل ولم أحبّها منذ طفولتي. وعن اختياره مصر محلّ إقامة دائمة، أجاب بالقول: «أحببْت مصر منذ طفولتي، وقضيت فيها معظم سنوات عمري. سكنت في حي السكاكيني، وأعتقد انني شخصية أجنبية نادرة في حقل الترجمة، وسبب الندرة قد يرجع إلى أنني منذ طفولتي عشت خارج إنجلترا، وعشت مع العرب سنوات طويلة، وزرت بلادهم، وكنت - وما زلت - مبسوطاً جداً من الحياة معهم، عكس مستشرقين آخرين وعلى رأسهم نيكلسون وهو لم يزر بلداً عربياً واحداً في حياته، على رغم أنه يعتبر من المستشرقين الممتازين الذين أعدّوا دراسات متميّزة وغير مسبوقة في التصوّف الإسلامي، وترجم من اللغة الفارسية كتاب «المثنوي» لجلال الدّين الرومي».
العلاقة الاستثنائية بمحفوظ
أشارت كتابة سابقة هنا في «الوسط»، إلى أنه في ترحُّله المُبكِّر، والطفولة التي اكتسب منها اكتشاف ما قرَّ لدى من سبقوه بأنهم مغايرون، وسنوات تلك الطفولة في القاهرة والسودان، وذلك الإقبال المبكِّر على تعلُّم اللغة العربية، كل ذلك منح ديفيز، مكانة مرموقة بين الأسماء الفاعلة في حركة الترجمة ونقل الأدب العربي إلى مناطق لم تكن على دراية بها، لتأخذ بعض تلك الأسماء مكانتها اللائقة في فاعلية وحركة الأدب العالمي.
يكفي أن نقف على وصف حائز جائزة نوبل في الآداب نجيب محفوظ (11 ديسمبر/ كانون الأول 1911 - 30 أغسطس/ آب 2006) إلى جانب المفكِّر والناقد الأميركي من أصل فلسطيني إدوارد سعيد (1 نوفمبر/ تشرين الثاني 1935 - 25 سبتمبر/ أيلول 2003) بأنه رائد الترجمة من العربية إلى الإنجليزية.
علاقته بمحفوظ ظلَّت استثنائية، ومن بين من أدلوا بشهاداتهم من يرى أن جزءاً من مشروعه في الترجمة تركَّز حول أعماله، ولعلّ ذلك التركيز هو من بين الأسباب التي ساهمت في حصول صاحب «بين القصرين» على جائزة نوبل بعد سنوات من أعماله المُترجمة إلى الإنجليزية.
في الكتابة نفسها التي استعرضت عدداً من شهادات كتَّاب مصريين، في ملف نشرته مجلة «الدوحة» القطرية في العدد 103، لشهر مايو/ أيار 2016، يورد القاص المصري سعيد الكفراوي في شهادته ما قاله محفوظ عن ديفيز: «إن دنيس جونسون ديفيز، الذي أعرفه وأحترمه منذ العام 1945، هو أول من ترجم عملاً لي، وكان عبارة عن قصة قصيرة. منذ ذلك الحين، قام دنيس بترجمة العديد من كتبي، والحقيقة أنه بذل جهداً لا يُضاهى في ترجمة الأدب العربي الحديث إلى الإنجليزية، وترويجه، فقد كان دائم البحث عن كتَّاب جدد موهوبين، والعمل، ليس على ترجمة أعمالهم، بل - أيضاً - على إيجاد ناشرين للترجمة (...)».
ظل ديفيز وفيّاً للمكان لأنه أساساً كان وفيّاً لبشر المكان؛ بل الأمكنة التي مكث فيها إما لعمل أسند إليه في مجال الإعلام، أو العمل كمستشار لحاكم أبوظبي، المغفور له بإذن الله، سمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، حيث امتد ترحُّله ما بين مصر، والمغرب، وأبوظبي وقطر، إلّا أن مصر احتلت الشطر الأكبر من إقامته شبه الدائمة، خارج وطنه الأم: بريطانياً، باعتباره القاهرة عاصمة ومنارة الثقافة العربية، وفيها ألمع الأسماء وأكثرها حضوراً. عن ذلك الترحُّل يقول: «عشت في هذا الوطن ما يزيد على أربعين سنة، بين مصر والمغرب، وأبوظبي وقطر، ووصيتي - إذا جاء الأجل - أن أمكث، عند خاتمتي، في المكان الذي أوجد فيه في تلك الأنحاء. هي عِشْرَة عمر، سكنت فيها الروح مرافقة للمكان والزمان والبشر».
العلاقة غير المُلتبسة
إقامته في أبوظبي، وعمله كمستشار هناك، ومتابعة للأعمال التي ترجمها، والتي وصلت إلى 30 مجلداً، أتاحت له تقديراً ومكانة هناك، وأوفت أبوظبي لجانب من حق الرجل على العرب، بمنحه جائزة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان عن «شخصية العام».
وبمناسبة الحديث عن الإمارات التي ظل يكنُّ لها محبة خاصة، كان لابد أن يكون لرحيل ديفيز الأثر الكبير، في استعادة للجهود التي بذلها الرجل طوال عقود، ومن هنا تأتي شهادة الأمين العام للاتحاد العام للأدباء والكتَّاب العرب، رئيس مجلس إدارة اتحاد كتَّاب وأدباء الإمارات، حبيب الصايغ، عبْر بيان نشرته الصحف المحلية والعربية قال فيه: «إن دينيس جونسون ديفيز كان صديقاً للعرب بالمعنى الحقيقي للصداقة؛ حيث الحب والاحترام والتقدير بعيداً عن حسابات المصالح وتبادل الخدمات، وقد أسّس الراحل الكبير خلال حياته الحافلة لنوع من العلاقة بالثقافة العربية تجاوز المفهوم التقليدي الملتبس لمصطلحي (الاستعراب) و (الاستشراق)، ليكون انتماء فيه عمق وحماس وإيمان».
وأشاد الصايغ بترجمات الراحل، وقال: «إن معظمها تم بمبادرات شخصية منه، لكنها مع ذلك أثرت تأثيراً قوياً في مجال تعريف الآخر بالثقافة العربية القديمة والحديثة على حد سواء، كما كان لاختياراته دور في عملية تبديد التصوّر النمطي لدى الغرب عن هذه الثقافة باتجاه تصوّر آخر واقعي وحقيقي».
ودعا الصايغ إلى دراسة تجربة ديفيز بوصفها نموذجاً لما يجب أن تكون عليه العلاقة بين الشرق والغرب، بحيث تتخفّف من أعباء الارتهان إلى حسابات الهيمنة والمركزية التي حكمت معظم تجارب الاستشراق السابقة. وقال، إن أهم ما ميّز عمل ديفيز هو احترامه للثقافة العربية، وإيمانه بثرائها وحقها في أن تكون ثقافة عالمية متصدّرة، وإن اختلفت في هويّتها وخصائصها عن الثقافات المُكرَّسة والمدعومة إعلامياً وسياسياً.
التاريخ... الخرائط
تأخذنا نماذج لمقالات نشرت هذا العام وأعوام سابقة، حيث انتظم له عمود أسبوعي في صحيفة «البيان» التي تصدر من إمارة دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة، إلى التنوع والثراء في تناولاته لموضوعات تبدو قديمة، لكنه يبعث فيها روح التجدّد من حيث زوايا تناولها، والقيم التي يريد للقارئ العربي أن يكون متأملاً ومقدِّراً لها، من ذلك عمود حمل عنوان «المسلمون في العالم»، ونشر بتاريخ 10 أبريل/ نيسان 2017، تناول فيه موضوع الخرائط، مشيراً فيه إلى أن المؤرخين حدّثونا «بأن أثمن الخرائط رسمها علماء كبار ينتمون إلى الحضارة الإسلامية، والذين جمعت كل المعرفة الجغرافية المتاحة لهم، ورسموا كذلك اعتماداً على رؤية شهود العيان للعالم في العصور الوسطى، والتي استمدت من جغرافيين ورحالة مسلمين، كتبوا يوميات مفصلة خلال ترحالهم»، متناولاً الأثر الذي أحدثه العلامة الإدريسي في القرن الثاني عشر، من خلال الأطلس الذي أظهر معظم أوروبا وشمال إفريقيا وآسيا، للمرة الأولى، واعتمد الإدريسي على المعرفة القديمة، وقابل آلاف الرحالة لجعل خريطته أدق خريطة في عصره.
وفي ترحال بين القرون، يقفز بنا ديفيز من حقبة إلى أخرى، ففي العام 1929 اكتشف الباحثون العاملون في متحف قصر طوبقابي في تركيا قسماً من خريطة للعالم تعود إلى مطلع القرن السادس عشر، وقعها القبطان التركي بيري محمد ريس مؤرخة في العام 1513.
ومن ثم إلى الصين باكتشاف خريطة للعالم رسمها الأدميرال المسلم الصيني زينغ هي. وترجع الخريطة إلى العام 1418. ورسم بيري محمد ريس خريطة ثانية للعالم العام 1528، وغطت هذه الخريطة منطقة الشمال الغربي من المحيط الأطلسي، وأظهرت العالم الجديد من فنزويلا وصولا إلى نيوفاوندلاند، وانبهر المؤرخون بثراء هذه الخريطة، ولكن للأسف عثر على شذرات منها فقط.
علاقته بالطيب صالح
وعن ذكرياته بالروائي والأديب السوداني الراحل الطيب صالح، يكتب تحت عنوان «ذكريات مع الطيب صالح»، نشر بتاريخ 1 يونيو/ حزيران 2015: «خلال إقامتي في لندن بين عامي 1954 و1969، قدّر لي أن أعرف الكاتب السوداني الكبير الطيب صالح، وعلى رغم أننا قد عملنا في القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية، إلا أن ذلك لم يكن في وقت واحد. وأعتقد أن أول ما قرأته من كتاباته، كان قصة قصيرة بعنوان (دومة ود حامد)، ثم قرأت روايته القصيرة التي تعد الآن إحدى روائعه (عرس الزين)، وقد قمت بترجمتها على الفور. وهي حكاية عن قرية سودانية، أعتبرها عملاً ناجحاً تماماً من الأعمال القصصية الرائعة».
مشيراً إلى العرض الذي قدمه كاتب ثقيل العيار، هو الروائي كينغسلي إيميس، بمزيد من الحماس، وفي وقت لاحق، قام المخرج الكويتي خالد الصديق بتحويل الرواية إلى فيلم سينمائي.
متطرقاً في المقال إلى أن الطيب صالح أبلغه بأنه شرع في كتابة رواية جديدة أكثر طموحاً، «وكان يكتبها بخط اليد، وكل بضعة أيام، كنت أتلقى في مكتبي مجموعة من الأوراق، تضم مقطعاً جديداً منها، وسرعان ما اكتملت الرواية التي حملت عنوان (موسم الهجرة إلى الشمال)، واكتملت ترجمتي لها في الوقت نفسه على وجه التقريب».
موضحاً ديفيز بأنه كان على تمام الثقة بأن لدي في هذه الرواية عملاً من أعمال القص العربي، سيتمكّن من أن يجد مكانه لدى ناشر لندني بارز، وليس في سلسلة روايات مكرسة للكتابات العربية الحديثة.
إلا أنه لم يخفِ خيبة أمله من تعاطي بعض دور النشر والمكتبات البريطانية مع المنتوج الإبداعي العربي؛ حيث يكتب: «يؤسفني القول إن الأمر كان بحاجة إلى ما هو أكثر من جيل نيفل و (الصنداي تايمز)، لكي يتم النظر إلى رواية الطيب صالح، على أنها أكثر من عمل إبداعي جيد قادم من إفريقيا».
ويكمل «عندما استفسرت في مكتبة هتشارد عن الكتاب، مستخدماً عنوانه، قوبلت بما يوحي بعدم التعرف إليه. وعندئذ، بادرت إلى ذكر اسم مؤلف الكتاب، فلم أحصل على استجابة تذكر، فبادرت موضحاً: (إنه كاتب عربي)، وكان الرد الذي تلقيته هو: (حسناً يا سيدي، لسوف تجده في الطابق الأرضي)».
برحيل دينيس جونسون ديفيز، يكاد يتوارى الجيل الأول ممن تصدَّوا لأعمال الترجمة في العالم العربي؛ سواء من أبناء اللغة العربية أو من أولئك الذين عشقوا اللغة العربية، وكرَّسوا حيواتهم لتقديم أبرز الجماليات فيها إلى العالم من خلال اللغات الحيَّة.
مقال جميل