في أحد لقاءاتي مع الراحل الصديق فردها ليداى، قال ممازحا: «للرأسمالية عشرات الفرص لتتجدد وتستمر، أما الاشتراكية فليس لديها سوى فرصة واحدة، إن أضاعتها ضاعت». تذكرت ذلك وأنا استرجع مصير التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية في أوروبا، بحيث انهار بناء سبعين عاما من الاشتراكية، دون أن يخلف وراءه قوى أو إرثا، يمكن ان تنهض مرة أخرى لتعيد الاشتراكية إلى الحكم.
اليوم نتابع ما يجرى في فنزويلا، وكأننا نستعيد ما كان يجرى في الأيام الأخيرة للاتحاد السوفياتي في ظل الرئيس الأسبق غورباتشوف، والذي انتهى بإزاحته وتفكك الاتحاد السوفياتي وصعود بوريس يلتسين للسلطة في روسيا، وتحول النظام إلى رأسمالية متخلفة.
فنزويلا اليوم تعيش ما يشبه حربا أهلية، حيث تتسارع الحوادث ويتوسع العصيان المدني، وتشل الحياة، ويسقط في ظل أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية خانقة، فكيف وصلت الأمور إلى هذا الحد؟ وكيف وصل الأمر الى ما يشبه المجاعة في بلد غني بثرواته ونفطه، وكان يسمى ببلد الجمال والترف؟
الحقيقة أن فنزويلا على رغم غناها وثرواتها، فقد كانت تعاني مثل باقي بلدان أميركا اللاتينية في الفساد والنهب، وهيمنة الشركات الأميركية على موارد البلاد وخصوصا النفط، ففنزويلا من أهم بلدان أميركا اللاتينية المصدرة للنفط، وهي في وضع جيد للتصدير لأميركا، ما يعطيها أفضلية في السوق، كما عانت فنزويلا أيضا من الانقلابات العسكرية.
بدأت مسيرة الأمل لاستعادة الاستقلال الوطني الحقيقي اقتصاديا وسياسا عن الولايات المتحدة، وتصحيح الأوضاع المختلة في الداخل على يد قائد شجاع هو هوغو تشافيز. قاد هوغو تشافيز محاولة انقلابية في العام 1992، ضد الحكم الفاسد لكن الانقلاب فشل وحكم عليه السجن سنتين؛ لكنه بذلك اكتسب مكانه في أوساط الشعب الفنزويلي.
بعد أن خرج من السجن قاد حملة لبناء قاعدة جماهيرية، وطرح رؤيته في إعادة بناء النظام السياسي والاقتصادي بمحتوى اشتراكي مستلهما سيمون بوليفار، القائد الأسطوري الذي حرر فنزويلا وعددا من بلدان أميركا اللاتينية من الاستعمار الإسباني. ولذا أطلق على حركته الجمهورية الخامسة ثم الحزب الاشتراكي الموحد لفنزويلا، بل أنه عمد لاحقا إلى إعادة تسمية البلاد بجمهورية فنزويلا الاشتراكية البوليفارية.
وهكذا فاز هوغو تشافيز في انتخابات الرئاسة في العام 1998، وعمد بعد تسلمه الرئاسة في 2007 إلى إدخال تعديلات واسعة على الدستور يحمل رؤيته المذكورة، وقد أقر الدستور في استفتاء، وعمد هوغو تشافيز في تنفيذ استراتيجيته في الداخل والخارج. في الداخل حيث اعتمد الاشتراكية نهجا، وفي الخارج اعتمد معارضة أميركا، وبناء تحالف في أميركا اللاتينية للدول الشبيهة لنهجه وتضم كوبا والبرازيل والأرجنتين وتشيلي، والاكوادور وبوليفيا، وطموحها إقامة سوق مشتركة، تحقق الاستقلالية عن أميركا وهيمنتها، كما اتبع تشافيز نهج إقامة علاقات وثيقة مع دول مناهضة أو منافسة لأميركا مثل: الصين وروسيا وإيران وسورية، وكان شديد الانتقاد للسياسة الأميركية والاسرائيلية في الشرق الأوسط، ومؤيدا الحركات المناهضة لأميركا وإسرائيل.
ولا ينكر أنه حقق إنجازات كبيرة لصالح الفقراء وجموع الشعب في فنزويلا وخصوصا في مجالات الإسكان والتعليم والصحة والعمل.
يمكن القول إن المقاومة ضد هوغو تشافيز أتت من المؤسسة العسكرية والتي كانت مرتبطة عضويا بالنخب اليمينية الحاكمة وبالولايات المتحدة. لذا فقد شهدت فنزويلا في 14 أبريل/ نيسان2012 محاولة انقلابية، دعمتها الولايات المتحدة وكادت تودي بتشافيز، لولا تحرك الجماهير في العاصمة كاراكاس والمدن الكبرى الى الشوارع، وإحاطتها بالثكنات والقصر الجمهوري، ما أدى إلى فشل الانقلاب ورجوع تشافيز إلى السلطة مظفرا.
أما القوة المعارضة الأخرى فهي المعارضة، والتي تضم طيفا واسعا من القوى المتحالفة ضمن طاولة الوحدة الديمقراطية التي لا توافق على نهج تشافيز الاشتراكي وعدائه للولايات المتحدة الشريك الأول لفنزويلا. كما لا توافق على الحد من الحريات واحتكار السلطة، ومن أبرز زعمائها هنريك كابراليس، حاكم ولاية ميراندا، وقد نافس كلا من الرئيس المتوفى هوغو تشافيز في انتخابات 2012، وخلفه مادورو في انتخابات 2013.
هناك عدة عوامل أدت إلى انحدار التجربة الاشتراكية في فنزويلا، وقادت تدريجيا الى تصاعد وتوسع المعارضة، إلى أن وصلنا إلى الوضع الحالي الذي ينذر بحرب أهلية وسقوط التجربة.
في مقدمة ذلك، أن تشافيز بما يمتلك من كاريزما ورصيد تاريخي، نحا نحو الفردية في قيادة السلطة، وخصوصا أنه كان مصابا بالسرطان الذي أثر بالتأكيد على أدائه، وبالتالي على إدارة قيادة الدولة، وقد اضطره المرض إلى إعلان نائبه نيكولاس مادورو كرئيس للبلاد في يناير/ كانون الثاني2013، وقد أدى السرطان إلى وفاة تشافيز في 5 مارس/ آذار2013. أما الشخص الذي خلفه فكان رفيقه نيكولاس مادورو، سائق الباص والنقابي المكافح السابق، ووزير الخارجية في عهد تشافيز، ولكنه ليس بذات الكاريزما والرصيد والقدرات.
يؤخذ على النهج الاشتراكي الذي طبقه تشافيز، ذات المآخذ على النموذج الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي، فقد عمد تشافيز الى تأميم أكثر من 1200 شركة في القطاعات الزراعية والصناعية والتجارية، لكنها كانت تدار بلا كفاءة، وبيروقراطية، ما ألحق خسائر كبيرة باقتصاد البلاد، وشكلت مصدر سخط من قبل الملاك المتوسطين، كما أن الإدارة غير الكفوءة للاقتصاد، وتعيين حزبين غير كفوءين في مراكز الدولة القيادية، قد أدى إلى نقص حاد في المنتجات الاستهلاكية وخصوصا الأغذية، ما أوصل البلاد إلى أزمة حادة، تشهد عليها الطوابير الطويلة من المواطنين للحصول على مواد استهلاكية مقننة، بل وعبور عشرات الآلاف بطرق غير مشروعة للبلدان المجاورة لشراء مواد استهلاكية مفقودة.
خاض مادورو انتخابات الرئاسة والتي أجريت في ابريل/ نيسان2014 وفاز على خصمه ممثل المعارضة، ولكن بغالبية ضئيلة، ووسط اتهامات بالتزوير واستخدام الدولة سلطاتها وتأثيرها لترجيح فوز مادورو.
وعلى رغم ذلك فقد حصلت المعارضة على غالبية في الانتخابات النيابية في العام 2015، وبهذا أضحى هناك تناقض ما بين رئيس منتخب وبرلمان تسيطر عليه المعارضة، والذي وقف بالمرصاد للرئيس ومشاريعه وقراراته وأبطل الكثير منها.
ومع احتدام الصراع سعت المعارضة إلى تنظيم استفتاء شعبي، لإنهاء ولاية الرئيس مادورو قبل أوانها، وجمعت العدد المطلوب من الأصوات لكي تقوم الهيئة الانتخابية بتنظيم الاستفتاء، لكن الهيئة الانتخابية الموالية لمادورو لم تقم بذلك، كما أن مادورو يعتمد على المحكمة الدستورية الموالية له أيضا في إبطال قرارات البرلمان، والحد من صلاحياته، وهكذا تصاعدت الأزمة المركبة في البلاد، ووصلت إلى حالة الانسداد الراهنة، حيث تخوض المعارضة العصيان المدني، لإجبار مادورو على الاستقالة، فيما يلجأ مادورو لاستخدام القوة المفرطة ضد المحتجين ويسقط الضحايا كل يوم. وحيث أثار النزاع قلق شركاء فنزويلا في منظمة الدول الأميركية، فقد قررت عقد اجتماع في 23 ابريل العام2017 لمناقشة الوضع في فنزويلا، وفي خطوة يائسة قامت فنزويلا بالانسحاب من منظمة الدول الأميركية، والتي تضم دول أميركا الشمالية والوسطى والجنوبية، مقدمة احتجاجا على ما تعتبره تدخلا من قبل الولايات المتحدة في شئونها، بدعمها الاحتجاجات. ولا شك في أن المواجهة ما بين الولايات المتحدة في عهد ترامب ستتصاعد، في ظل انحسار التأييد من قبل دول أميركا اللاتينية لفنزويلا، في ضوء التغييرات في قيادات عدد من بلدانها وخصوصا البرازيل والأرجنتين وكولومبيا لصالح اليمين، واقترابها أكثر من الولايات المتحدة.
وما يفاقم الامر دعوة الرئيس مادورو في 1 مايو/ أيار2017 لانتخاب مجلس تأسيسي، في ظل وجود المجلس الوطني حيث للمعارضة الغالبية، بهدف تجاوز المجلس الوطني؛ وذلك لوضع دستور جديد، لإعطاء مزيد من الصلاحيات للرئيس على حساب المجلس الوطني، ما فجر غضب الشارع ودعا المعارضة لإعلان العصيان المدني، بما في ذلك احتلال الشوارع والساحات العامة، وتسيير مسيرات تجاه القصر الجمهوري ومحاصرته. وتقابل هذه الاحتجاجات بالقوة من قبل قوات الأمن، حيث يسقط ضحايا كل يوم، ما يؤجج بدوره الاحتجاجات. كذلك توسع الاعتقالات والتي بلغت الآلاف في صفوف المحتجين والمعارضين. وفي ظل هذه الفوضى، تتم أعمال عنف ونهب للمخازن والممتلكات في الكثير من المدن أثناء الليل.
أما جوهر مطلب المعارضة حاليا، فهو إجراء انتخابات حرة ليقرر الشعب الفنزويلي من يحكمه وكيف يحكم. وحيث أنه وبحسب استطلاعات الرأي العام، فإن الحزب الحاكم لايحظى بأكثر من 25 في المئة من أصوات الناخبين، لجأ الرئيس مادورو إلى الدعوة لمجلس تأسيسي تتحكم في تشكيلة الهيئة الانتخابية التي يسيطر عليها لوضع دستور جديد في ظل تدهور هذا الوضع، فإن من المحتمل أن تتعطل مؤسسات الدولة، ويحدث انقسام في القوات المسلحة، وفوضى وتطرف في الشارع، ويتحول نقص الأغذية إلى مجاعة.
لقد عرض زعماء أميركيون لاتينيون سابقون، من بنما والإكوادور وبيرو وتشيلي، استعدادهم للوساطة بين الحزب الحاكم والمعارضة؛ ولكن لم يتم حتى الآن القبول بمبادراتهم. كما عرض بابا الفاتيكان فرانسيس الأرجنتيني استعداد الفاتيكان للوساطة بين الحكم والمعارضة.
إن هناك تدهورا في الأوضاع قد يؤدي الى استيلاء الجيش على السلطة، وبالتالي تراجعا خطيرا عن مسيرة الديمقراطية في واحد من أكبر وأهم وأغنى بلدان أميركا اللاتينية.
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 5376 - الجمعة 26 مايو 2017م الموافق 29 شعبان 1438هـ
أعلم بوجود أزمة في فنزويلا و لكن لم أكن أعلم تفاصيلها .. مقال جميل، شرح الخلفية التأريخية للأزمة و الوضع الراهن و ما يمكن أن يحدث في المستقبل القريب .. شكراأ