جاءت عملية الخليل النوعية التي نفذتها عناصر من (حركة الجهاد الاسلامي) وأدت إلى مصرع أكثر من 12 جنديا إسرائيليا بينهم القائد العسكري في المدينة، فيما كان المحللون السياسيون والخبراء الاستراتيجيون منشغلين في تحليل تداعيات وصول أقصى اليمين المتطرف إلى سدة الحكم في «إسرائيل»، جاءت هذه العملية لتقلب الطاولة على عتبات المتطرفين في الدولة العبرية، بعد أن باتوا أمام نوع جديد من العمليات العسكرية التكتيكية غير المسبوقة منذ انطلاق انتفاضة الأقصى المبارك، وهو ما دفع كثيرا من المحللين العسكريين في «إسرائيل» إلى الحديث عما أسموه «بصمات واضحة لحزب الله في العملية التي نفذت بأسلوب مشابه لما كان يجري في لبنان ابّان الاحتلال».
وبعيدا عن التوظيف السياسي الإسرائيلي الذي يحاول اعطاء كل عملية ناجحة في فلسطين العربي المحتلة بعدا اقليميا، ترى مصادر متابعة للشأن الفلسطيني أن العملية جاءت في توقيت سياسي مهم جدا على مستوى الداخل الفلسطيني والداخل الإسرائيلي، فضلا عن أبعادها العسكرية التي بدأت الدوائر الاستخباراتية والأمنية الإسرائيلية في تحليلها منذ أن انتهوا من لملمة أشلاء جنودهم القتلى في ساحة المعركة.
ورأت المصادر أن المؤشرات العسكرية والأمنية المقلقة بالنسبة إلى «إسرائيل» تتلخص في المعطيات الآتية:
1- التكتيك الذي اعتمد في العملية لجهة الكمين المحكم والتنسيق التام بين عناصره، اذ تمت عملية ايهام ناجحة للجنود والمستوطنين عبر الهائهم باطلاق نار جانبي بينما كان الكمين في مكان آخر وفي نقطة تعتبر آمنة بالنسبة إلى الإسرائيليين، ما أوقع هذا الكم الكبير من القتلى والجرحى، وهذا أمر يعتبره الإسرائيليون خطيرا للغاية لأنه يدل على تطور نوعي غير مسبوق في التخطيط والتنفيذ لعمليات كانت في الماضي تتم عشوائيا وبشكل عفوي.
2- المعلومات الأمنية التي حصل عليها عناصر «الجهاد الإسلامي» ومكنتهم من تقدير مسبق لآلية تحرك الجنود الإسرائيليين وترقب ردات فعلهم الميدانية، وهو ما علق عليه أحد الجنود الإسرائيليين الجرحى ونجا من الكمين بالقول: «... لقد علقنا في جحيم ولم نكن نعرف من أين كانت تطلق علينا النار، لقد كانوا يعرفون جيدا آلية حركتنا وردود فعلنا».
3- الأداء العسكري الميداني العالي المستوى لجهة تمكن ثلاثة عناصر فقط من مواجهة عشرات الجنود الإسرائيليين لأكثر من خمس ساعات متواصلة، تمكنوا خلالها من استخدام الذخائر التي كانت في حوزتهم بأسلوب مقنن يدل على احتراف قتالي عالي المستوى.
4- اختراق ما يعرف بمنطقة «وادي النصارى» في مدينة الخليل ومحيط مستوطنة «كريات أربع» حين كانت الاستعدادات العسكرية في ذروتها، فيما تدل ظروف العملية على أن عناصر «الجهاد الإسلامي» قاموا بعملية رصد طويلة مكنتهم من نصب الكمين لمدة طويلة اختاروا بعد ذلك التوقيت المناسب للانقضاض على «فريستهم».
وانطلاقا من هذه العمليات فان ما قاله الإسرائيليون لجهة «بصمات حزب الله» فيه الكثير من الصحة اذا ما تمت مقارنة هذه العملية بالأساليب التي كان يستخدمها في جنوب لبنان، وما يقلق الإسرائيليين جديا في هذه المرحلة أن يكون الحزب نجح فعلا في ايصال تقنياته وتكتيكاته العسكرية إلى فصائل المقاومة الفلسطينية بعد أن نجح في الماضي في تقديم المثال والدعم المعنوي والاعلامي.
والمخاوف الإسرائيلية الحقيقية تعود إلى عدم القدرة على تحديد الرابط الفعلي أو القناة الحقيقية التي يتم من خلالها التعاون ونقل الخبرات إلى داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو أمر يثير القلق من احتمال وجود (شبكة أمنية متمرسة في الداخل لتنسيق العمل الميداني)، وهناك احتمال آخر لطالما أشارت اليه الدوائر العسكرية الإسرائيلية، وهو احتمال خضوع عناصر المقاومة الفلسطينية لدورات خاصة لدى حزب الله، وخصوصا عناصر «الجهاد الإسلامي»، وهم الأكثر قربا سياسيا للحزب من باقي الفصائل الأخرى.
في المقابل، وعلى مستوى الدلالات السياسية للعملية، فإن العملية جاءت بعد وقت قليل من انتهاء المفاوضات السياسية بين السلطة الفلسطينية و(حركة حماس) في القاهرة للتفاهم على كيفية إدارة الانتفاضة، وبعد ساعات قليلة على زيارة مدير المخابرات المصرية عمر سليمان للدولة العبرية والأراضي الفلسطينية بهدف التسويق لهدنة مدتها ثلاثة أشهر.
جاءت (عملية الخليل) لتقول ان الانتفاضة لم تعد تدار من وراء المكاتب ولا يمكن اختصارها بفصائل معينة في الداخل أو برعاية عربية أحادية الجانب، فهي أصبحت بعد سنتين من انطلاقتها شديدة التشعب والتعقيد ترتبط في الداخل بخلايا عسكرية وأمنية ميدانية تتحرك بأسلوب لا مركزي، وقيادة سياسية في الخارج لديها ارتباطاتها وحلفاؤها الاقليميون والدوليون، بدءا بسورية وانتهاء بإيران، وبالتالي فان أي مشروع تهدئة أو حل سياسي لن يحصل من دون مراعاة الآراء المتعددة للأطراف الفاعلة كافة.
وانطلاقا من هذه المعطيات، السياسية والعسكرية، فان الأيام والأسابيع المقبلة ستكون حبلى بالحوادث والتطورات في انتظار رد الفعل الإسرائيلي على هذه العملية النوعية، وفي حال تكرار هذا النموذج من العمليات فان الانتفاضة تكون قد دخلت مرحلة جديدة من العمل العسكري المباشر ضد جنود الاحتلال وقطعان مستوطنيه
العدد 93 - السبت 07 ديسمبر 2002م الموافق 02 شوال 1423هـ