أميركا تتغير، وخط بيانها يتغير نحو الاسوأ. بدأ الامر قبل 11سبتمبر/ايلول وازداد بعد ذلك اليوم. هناك ملفات كثيرة تؤرق «البيت الابيض». ومعظم تلك الملفات هي من صنع الادارة الاميركية . فالادارة منذ وصول الحزب الجمهوري اتبعت سلسلة خطوات معاكسة لكل «الايجابيات» التي حققتها الادارة السابقة سواء على مستوى العلاقات الخارجية او تلك التي تطول الاقتصاد والامن وغيرها من قضايا لها صلة بالتوازن الدولي او تحسين الاوضاع الاجتماعية لفئات الطبقة الوسطى.
بدأ الاختلاف قبل فوز جورج بوش الابن بالانتخابات الرئاسية حين عطل اعضاء الحزب الجمهوري في الكونغرس الكثير من القرارات المتعلقة بالضمانات الصحية والاجتماعية التي حاول الحزب الديمقراطي تمريرها، وحاول الرئيس بيل كلينتون توظيف الوفر المالي الذي تحقق في الموازنة في القطاعات الصحية والضمانات الاجتماعية الا ان الحزب الجمهوري احبط تلك الاتجاهات واصر على اعادة توظيفها في قطاع التصنيع العسكري والمسائل المتعلقة بالدفاع.
الى ذلك اقترح الحزب الجمهوري على ادارة البيت الابيض خفض الضريبة على الاغنياء وتشجيع اصحاب الدخل المرتفع على توظيف اموالهم في البورصة او استثمارها في حقول انتاجية بغية توفير فرص العمل.
الاختلاف بدأ قبل الانتخابات الرئاسية الاخيرة وكانت وجهة نظر الحزب الجمهوري منذ البداية العودة إلى فضاءات «الحرب الباردة» وافتعال سياسات متشددة مع روسيا والصين والاتحاد الاوروبي لتبرير الانفاق على الدفاع والامن والتسلح. بينما كانت وجهة نظر الحزب الديمقراطي ان «الحرب الباردة» انتهت ولابد من خفض موازنة الدفاع والانفاق على التصنيع العسكري وتوظيف الفائض من المال في القطاعات الصحية والضمانات الاجتماعية.
وفر كلينتون في السنة الاخيرة من عهده وللمرة الاولى منذ 40 سنة قرابة 50 مليار دولار في الخزانة الاميركية، وحين حاول استثمار الفائض في برامج صحية واجتماعية كرر الحزب الجمهوري تعطيل خطواته. وخرج كلينتون من البيت الأبيض تاركا الخلاف على مصير الفائض المالي للإدارة الجديدة. وفي أقل من سنة انفقته على حربها ضد نظام طالبان وتنظيم القاعدة في أفغانستان. ورافق قرار إعلان الحرب الدولية على الارهاب سلسلة خطوات داخلية متعاكسة بدأت بزيادة الإنفاق على الدفاع والتصنيع العسكري بأسلوب غير مسبوق في تاريخ الولايات المتحدة مقابل خفض الضريبة على الأغنياء بهدف كسب ثقتهم وجذب أموالهم للاستثمار في القطاع الحربي. والنتيجة كانت عودة الاقتصاد الأميركي إلى الركود وانكماش دخل الخزينة وارهاق الموازنة بالانفاق الأمني والعسكري والدفاعي. فالفائض انتهى في الشهور الأولى والعجز تضخم بطريقة خرافية من الصعب احتواء تداعياتها إلا إذا قررت الإدارة العودة عن سلسلة إجراءات اتخذتها ردا على ما يسمى بالحرب على الارهاب. والعودة إلى الوراء باتت من الأمور المستحيلة في وقت يسيطر مثلث الشر (تشيني، رامسفيلد، رايس) على الإدارة ويدفع البيت الأبيض إلى المزيد من التطرف والمواجهات المكلفة إنسانيا والمرهقة للخزانة ودافع الضرائب والطبقات الأميركية الوسطى.
استقالة وزير الخزانة والمستشار الاقتصادي للرئيس بوش في يوم واحد تأتي في سياق تلك المعركة الداخلية بين مثلث الشر (رجال الأمن والمخابرات) ورجال المال والاقتصاد. فالسياسة لا تستطيع السير في خطين متعاكسين: إما تغليب الأمن على الاقتصاد وارهاق الخزانة بالديون والميزان التجاري بالعجز بذريعة حماية الشعب من مخاطر خارجية، وإما تغليب الاقتصاد على الأمن وتخفيف الانفاق على الدفاع والتصنيع الحربي وإبطال سياسة افتعال الحروب واصطناع الاعداء وتخويف الشعب الأميركي من المخاطر التي تهدد وجوده من تنظيم شبه وهمي لا يعرف أوله من آخره.
مال جورج بوش كما يبدو إلى مثلث الشر واختار الأمن على الاقتصاد، والحروب الدائمة على السلم الأهلي الدائم... والآتي أعظم.
الولايات المتحدة أمام شفير هاوية اقتصادية - مالية كبرى فهي إما ان تعدّل سياستها الخارجية وتضبط انفاقها العسكري لإعادة التوازن الداخلي (توزيع عادل للثروة) وإما ان تستمر في كسر توازنها الداخلي (تشديد الرقابة الأمنية على المجموعات الأميركية المختلفة لونيا ودينيا) ومتابعة سياستها الهجومية في الخارج، والتعويض عن النقص المالي في الخزانة بالمزيد من نهب ثروات الشعوب في البلدان النامية والعربية والإسلامية (احتياط النفط العراقي يقال إنه يكفي حاجات أميركا لمدة مئة سنة).
بوش اختار الجانب الأمني من الاستراتيجية فضغط على وزيره ومستشاره للاستقالة... وبقي عليه ان يلتقط الفرصة المناسبة لإعلان الحرب
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 93 - السبت 07 ديسمبر 2002م الموافق 02 شوال 1423هـ