استضافت أسرة الأدباء والكتاب الشاعر والكاتب البحريني كريم رضي في الأمسية التي أقامتها اللجنة الثقافية مؤخراً، وحملت عنوان «العامل في الأدب البحريني». وانطلق رضي من مصطلح العامل نفسه، مشيراً إلى أنه؛ كما هو معتمد في معجمه الفلسفي والأيديولوجي، يُعدُّ حديثاً نسبياً في العالم؛ حيث لا يزيد عمره على عمر الثورة الصناعية منذ نحو قرنين ونصف؛ أي في القرن الثامن عشر منذ اكتشاف الآلة البخارية، بل إن مصطلح الطبقة العاملة كطبقة لها تميّزها عن سائر الطبقات في المجتمع هو وليد تحوّل المجتمع بدءاً ببريطانيا ومروراً بأوروبا ثم بالعالم الثالث عبر الاستعمار، انطلاقاً من العمل اليدوي الحرفي وصولاً إلى العمل الآلي وبروز ما يعرف بالبيئة الصناعية التي تجمع مئات أو آلاف العمال تحت سقف واحد في بيئة انتاجية واحدة.
وللدخول إلى جوهر القضية الأدبية والموضوع المحوري الذي أراد رضي الإبحار فيه بوصفه النتاج الأدبي، أو بأننا أمام أدب بحريني عمّالي - إذا صح التعبير - وقف رضي على عدد من المحطات العمّالية المهمّة التي يمكن اعتبارها إشعاعاً ومحطات إلهام استقى الأدباء منها بدءاً من العام 1932م، وهو العام الذي تم فيه اكتشاف النفط، والعام 1936م، الذي شهد افتتاح مصنع التكرير والنهاية الرسمية لعصر الغوص وبدء تكوّن الطبقة العاملة، والعام 1938م، أول الإضرابات العمالية، والعام 1943م، الإضراب العمّالي وتحوّل المطالب من عمّالية إلى نقابية، والعام 1954م؛ حيث تم تشكيل اتحاد العمل البحراني كذراع عمالية تابعة لهيئة الاتحاد الوطني، والعام 1957م، صدور أول قانون عمل في البحرين، والعام 1965م الإضرابات العمّالية الكبرى إثر فصل مئات العمّال من مصنع التكرير تحوّلت إلى هبّة ضد الانتداب البريطاني، والعام 1975م، إضرابات عمّالية في القطاعات الرئيسية، والعام 1976م، صدور قانون عمل جديد لكن ألغي منه بند حق النقابات، والعام 1983م، تشكيل ما عُرف باللجان العمّالية الاستشارية والعام 2001م حيث صدور ميثاق العمل الوطني والنص على حرية تشكيل النقابات.
العامل في سرْد خليفة
وأكد رضي على أن الروائي والقاص الراحل عبدالله خليفة يعتبر من أبرز الذين تمثّلوا شخصية العامل في العمل السردي كونه أصلاً يبني مضمونه على حياة ومعاناة الفئات المهمّشة وعلى رأس هذه الفئات العمّال، وقد مثّلت أعمال خليفة ومحمد عبدالملك، وهما رائدان كبيران من رواد القصة القصيرة في البحرين، البيئة البحرينية في المدن التي تكوّنت على سواحل الجزيرة في ضواحي المنامة كالحورة والقضيبية وأيضاً في المحرق، وهي أشباه مدن إذا صح التعبير، كانت هي مهد التشكّل الأوّلي للطبقات الحديثة وتأتي من ضمنها الطبقة العاملة. أما الشعر بوصفه النوع الأدبي الأقدم من السرد فقد تعامل ولا زال مع المدينة ومنتجاتها ومنها العمل الصناعي بشكل كبير ونفور أولاً لكونها من المنظور القومي والوطني ناتجة عن الاستعمار وممثلة لاستغلاله الثروة الوطنية والأرض والناس وثانياً لكون الشاعر غالباً كائناً أيكولوجياً بطبعه ينظر بريبة بل عداء إلى كل تغيير يطال البيئة من حوله، وخاصة بيئة الريف والبحر والتي لا تكون الصناعة إلا على حسابهما، وهذا طبعاً بالعكس من السرد الذي هو ابن المدينة بامتياز ومروج لوجودها وحضورها الفيزيائي والمعنوي وهو حتى حين يواجه المدينة بالنقد فهو ينقدها من داخلها ولا يواجهها بالعداء والقطيعة.
حضور العامل في الشعر
وفي بحثه حول العامل في الأدب البحريني بيّن رضي بأن المتلقّي يجد في الشعر الكثير من التمثّل للبيئة البحرية والزراعية ومعاناة الغوّاص والفلّاح. وربما حملت هذه معاناة العامل رمزياً من خلال قناع البحّار والفلاح، لكنها قلّما تتمثّل العامل بصورته الصريحة الواضحة، رمزاً للمواجهة مع الواقع المهيمن، وقدّم نماذج من الشعر للشاعر علي عبدالله خليفة الذي يقول عن الغواص:
«يفلقون الصدف الموحل في عز الظهيرة
حسبما شاءت أميرة
في أقاصي الأرض في أغنى البلاد»
ويقول:
«وسمعت نهّاماً ضرير
يبكي يذر على الجروح
ملحاً ويصرخ في السماء
أنا الهضيم أنا الهضيم
عريان إلا من إزار
في الشمس في الترحال في المد الغزير»
ويقول عن الفلاح:
«ابتهالات صلاة
لعذوق البسر للأرض وللبحر العنيد
نجم الصباح يروي المزارع والحقول
فيمد للأرض الشعاع
للبحر يحتضن الشراع وللقلوع»
ويقول سعيد العويناتي:
«أيها النخل الخرافي الجميل
هل تذكرت أبي بين عذوقك
وأخي الفلاح قرب الماء يشدو بعض ألحان صباحك
وبني قريتنا يفترشون الخوص في الليل وأكوام السعف
هل تذكرت صياح الديكة
وخرير الماء والترنيمة الحلوة في يوم الزفاف»
ويمكن القول إنه حتى حين اختار الشعراء شخصيات رمزية يحيل الشاعر إليها تمثلاته للواقع مثل الحلاج أو مثل ضاحي بن وليد أو غيرهما فإن مشهد المعاناة المقارن يتخذ من البحر والأرض مكاناً له وهي أمكنة راسخة قارّة لا علاقة لها بالمكان الصناعي الذي هو أصلاً انتشال للعامل من مكانه الأصل في القرية والساحل وغرسه في مكان جديد من المعدن.
يقول علي الشرقاوي في «قصيدة حياة» والتي تتمثل شخصية ضاحي بن وليد:
«وأنا البدوي أخيط فضاء وترياً
من أمواج البدو المرتعشات على أطراف غدي
فارحم ارحم كمَدي
يصرخ بالصوت المنهد كسَيف المد
يا ليل الدان التفاحي
ضاحي بن وليد
قاد اليم بذاكرة النخلة
غنّى يا دان
يرفع أشرعة الممنوع يسافر فيها»
ويقول قاسم في قصيدته عبدالماء:
يده ملطخة بماء الوقت
في يده حرير النخل
بعد دقيقتين عميقتين يطل في كلماتكم
ما زال مشدوهاً ومحترفاً
وتصحبه القواقع والمحارات التي شهقت
وسوف دقيقتنا غريزتنا
آخ آه البحر
لا تتناثروا
قد ينهض البحر المسجى في السواحل»
ويقول يوسف حسن في أغاني القرية:
«إيه يا حقل النخيل
يا رؤى دامية في صدر فلاح عليل
إيه يا عصفورة
يصطادها من شاء من غير دليل
أنت يا ساذجة يا قروية
أين ضيّعت العيون القزحية
أين أعذاق النخيل
أين والأطفال جوعى يا عذاري»
لكنا سنعثر في الشعر على صورة وحيدة لقاسم حداد وهو يقول في قصيدة «الخلق يبدأ» وهي من ديوان انتماءات:
«أبدأ لغلغة اللغة المغلولة
من غرغرة الدم بنحر شهيد
نحمله حمل الحب
من عرق يتموج كالمجد الجبلي الجانح
في عمّال بلادي المرضوضة بالضيم
أبدأ لا أعرف حداً للكلمة
أعرف حداً للسيف»
وفي قصيدة للشاعر أحمد مدن:
«إذا تسكب الشمس عزتها
يدلق العمّال غربة قارتهم
يشتغل الأسفلت بالعرق والمظلات
وأكوام الأجساد المتناثرة
وجنبات الطرقات
وتجنح البلاد القصية إلى صخب الخليج
وفي الجانب تؤوب الأشجار إلى سيرة الظل والدفء
وخرائط النهار وجلال الأرض
وفتوة العالم»...
وفي المقابل قدّم كريم رضي نماذج من السرد بدأها بالأديب الراحل عبدالله خليفة:
في مجموعته القصصية الأولى «لحن الشتاء» يحكي القاص عن العامل أحمد، الآلة التي لا تهدأ من سجن إلى سجن ومن إضراب إلى إضراب وتحوّلات الناس من حوله بعد خروجه من السجن.
تبقى شخصية العامل والهامشي تمثل في معظم أعمال عبدالله خليفة الروائية والقصصية - غير الإسلامية منها - عنصراً رئيسياً من عناصر الحكاية لديه.
محمد عبدالملك
من مجموعته القصصية «موت صاحب العربة» في قصة خمارة الجرذان يحكي القاص سيرة عمّال الحفر متعدّدي الجنسيات الذين يطفئون في كؤوس البيرة تعب النهار المضني حيث بين التهكم والجد يصعد في الحانة هتاف «يسقط المقاولون» والذي سرعان ما يتبدد ويتلاشى مع دخان سجائر الحالمين السكارى ليفيقوا على واقع أنهم يحفرون ويحفرون إلى ما لا نهاية.
أما في قصة «أحمد الناطور» فيروي القاص سيرة الناطور العجوز الذي حمله الطلبة على أكتافهم الطرية في المظاهرات وبهرته هتافات المطالبة بالمساواة والعدالة ومنذها لم يعد ناطوراً.
في المجموعة نفسها قصة «عندما توقفت آخر سفينة» فهي لحظة التحول أخيراً من عالم الغوص المترنح إلى عالم مصنع التكرير حيث لا بد أن تكون هذه القصة في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي وقد بدأ النفط يختطف الغواصين الذين أفلت شمس بضاعتهم ولم يعد لهم مفر لأن يأكلوا ويعيشوا سوى العمل في مكان يجهلون ما هو وما هم مقدمون عليه.
أحمد المؤذن
في مجموعته «من غابات الأسمنت» في قصة «إجراءات شكلية» يروي القاص حكاية طالب، العامل البائس الذي تحول بحثه عن إجازة فحص البصمات إلى كابوس رهيب يأخذه بين الجدران عقاباً على ماض سياسي كان يحاول أن ينجو من تبعاته.
عبدالعزيز الموسوي
في مجموعته القصصية «طلقات» يحكي الموسوي قصة العامل الذي فقد يده أثناء العمل. صعوبة التأقلم مع يده الاصطناعية وخاصة حين يريد لمس حبيبته نرجس. معاناة تنتهي بأن يتعايش العامل مع يده البلاستيكية. يمنح الجماد حياة. يقنع بأن يكون خده يداً تلمس يد حبيبته. إن لم تلمس اليد الخد فليلمس الخد اليد.
في مجموعته القصصية «كرتواكو» يتناول الموسوي في إحدى قصص المجموعة قصة العامل السريلانكي في البحرين وقصته مع عذابات الهجرة. ويمثل عبدالعزيز الموسوي عموماً تحولاً في عالم القصة القصيرة باهتمامه بفئة العمّال الأجانب وهي فئة عادة ما كانت منسية تماماً في الأدب البحريني.
ويخلص رضي إلى أن حكاية العامل والعمّال لم تروَ بتمامها وحقيقتها والأعمال الموجودة متناثرة ولا تشكّل ظاهرة ويعتقد أننا لا نزال نبني ما يمكن تسميته أدباً عمّاليا، يغلب على الأعمال التي تناولت العامل والعمّال كطبقة، الطابع الفردي بحيث يكون الكلام عن عامل أو عن عدد محدود لا عن طبقة بما لها من حراك سياسي واجتماعي وثقافي وعاطفي، وأخيراً يرى أن السرد كان أكثر التصاقاً بثيمة العامل وقضاياه.