العدد 92 - الجمعة 06 ديسمبر 2002م الموافق 01 شوال 1423هـ

رئيس الحكومة المنافس الأول والجيش على الحياد

الجزائر تدخل دوامة المعركة الرئاسية قبل العام 2004

سمير صبح comments [at] alwasatnews.com

.

على رغم الجهود التي بذلتها الاطراف المحيطة بكل من رئيس الجمهورية الجزائرية، عبدالعزيز بوتفليقة ورئيس الوزراء علي بن فليس، لنفي وجود خلافات بالعمق بين الرجلين، فإن ما يجري على ارض الواقع منذ فترة يدل على عكس ذلك تماما. فمعركة رئاسة الجمهورية المقررة في العام 2004 فتحت منذ الآن، فيما يبدو ان الضربات باتت «حقا مكتسبا» للمرشحين الرئيسيين، المعنيين بهذه العملية الانتخابية. ذلك في الوقت الذي بدأ فيه كل فريق بجمع اوراقه، يحشد قواه وحلفاءه، ويعد الملفات المناسبة التي سيخوض على قاعدتها مراحل الاستحقاق الكبير، الذي اعتبرته الاوساط المراقبة الفرنسية المختصة بشئون الجزائر بمثابة «معركة كسر عظم» هذه المرة خلافا للماضي.

في هذا السياق يمكن القول ان تسجيل النقاط، لكل في مرمى الآخر، قد انطلق منذ وصول بن فليس - الذي ادار معركة بوتفليقة الرئاسية الى جانب مهندسها، الجنرال المتقاعد والمستشار حاليا في الرئاسة، العربي بلخير - بمساعدة «السلطة الفعلية»، اي الجيش، وتحديدا جهاز «الامن العسكري» برئاسة محمد مديان «توفيق»، للامانة العامة لحزب «جبهة التحرير الوطني الجزائرية»، وبالتالي احرازه نجاحا ساحقا في الانتخابات التشريعية ما مكنه من السيطرة على غالبية المقاعد في البرلمان. الامر الذي اثار حذر ومخاوف بوتفليقة الذي فسر ابراز رئيس وزارته على هذا النحو، وهو الخبير المحنك بتحضير اجواء التغييرات في الجزائر منذ ان كان وزيرا لخارجية الرئيس الراحل هواري بومدين، على انها تمهيد لاعداده مشروع رئيس مقبل.

فالاختلافات بين هذا الجهاز الفاعل في الحياة السياسية الجزائرية وقصر المرادية ليست سطحية تتعلق بتعيينات في مراكز مدنية معينة، او مجرد تباينات حيال بعض السياسات أو في وجهات النظر. بل هي ابعد من ذلك بكثير، كونها مست، بنظر العسكر، صلب القرار السياسي في البلاد، والذي يفترض بحسب العرف والاتفاقات المسبقة مع كل رئيس يتم اختياره، التشاور الكافي. فالذي يحدث منذ فترة لا يعكس هذا التوجه، وبالتالي لا يمكن لهذه «السلطة الفعلية» القبول به. فالمبادرات التي قام بها الرئيس بوتفليقة في السنتين الماضيتين، من ابرزها، طرح مشروع «الوئام الوطني» الذي يدعو إلى العفو والمصالحة مع الاسلاميين التائبين، وأنشائه لأقنية موازية للحكومة لفتح حوارات مع قادة مناطق القبائل وعروشها عبر مستشاره «رشيد عيسات»، بهدف حل مشكلاتها، وإعلانه خلال لقاء وفد ارباب العمل الفرنسيين «الميديف» الذي زار الجزائر في شهر اكتوبر/ تشرين الاول الماضي عن نيته التي لا رجعة فيها، بفتح ابواب قطاع الهيدروكربورات امام الاستثمار الخارجي. بمعنى آخر، الاشارة غير المباشرة إلى تخصيص اجزاء من شركة «سوناطراك» الوطنية (الدجاجة التي تبيض ذهبا) للنظام واعمدته. واخيرا لا آخرا دعوة جمعيات الدفاع عن الحريات الديمقراطية الغربية، ومنظمات حقوق الانسان العالمية إلى زيارة الجزائر والاطلاع عن كثب على مجريات هذه الاوضاع وتطورها.

كل هذه الخطوات كانت كافية لاستفزاز مراكز قوى فاعلة داخل الجزائر ودفعها إلى التصدي بحزم وميدانيا لمحاولات رئيس الجمهورية وعرقلة مساعيه، سواء عن طريق تحريك «الاتحاد العام للعمال الجزائريين»، الذي وقف بصلابة إلى جانب رئيس الوزراء الذي انتقد محاولة «بيع ثروات البلاد بأحسن الاثمان للاجنبي». او باستثارة الاحزاب الموالية لها، وبعض قوى المجتمع المدني من العلمانيين والمثقفين، إلى حد اتهام بوتفيلقة وفريقه المقرب بتقديم تنازلات إلى الارهابيين الاصوليين، الذين هدروا دم الابرياء من المواطنين، بهدف كسبهم لاحقا في معركته الانتخابية. كما لم تتردد القوى المناهضة لعودة بوتفليقة إلى سدة الرئاسة من تشجيع بعض وسائل الاعلام المرتبطة بها على فتح النار عليه واستغلال علاقاته ببعض الدول الخليجية التي عمل فيها لسنوات مستشارا لقادتها لتسهيل عقد صفقات لصالح رجال اعمالها وتمويلها في الجزائر.

رسائل، مناورات، وأدوات

في خضم هذا الجو المشحون سياسيا، والذي يعوق، على رغم مظاهر الانتاج الاقتصادي الجارية على قدم وساق داخليا، والاستعدادات الهائلة للاحتفال بانطلاقة «سنة الجزائر في فرنسا»، كذلك الحملات الاعلامية المدفوعة بسخاء زائد عن اللزوم لوسائل الاعلام الاجنبية، والاوروبية منها تحديدا - والعربية بنسبة متواضعة - لتجميل صورة البلاد، بدأت رسائل الاطراف المتنازعة على قمة السلطة بالتنقل في كل الاتجاهات. تواكبها مناورات تسير وفق ايقاعات مدروسة، تستهدف ما أمكن ارباك الخصم والحد من تأثيره المستقبلي. ومما لا شك فيه، ان القوى المتصارعة لن تتردد من الآن وصاعدا، باستخدام كل الأدوات التي في حوزتها لحرق المراحل، ولم لا الاشخاص، في حال اشتد وطيس المعركة وتجاوز خلالها المعنيون حدود الخطوط الحمر المعروفة.

ضمن هذا التصور يطرح اركان حرب بوتفليقة أسئلة مشككة فيما اذا كان علي بن فليس سيحتفظ بمقعده في رئاسة الوزراء أم سيكون ضحية لطموحاته الفضفاضة - بسحب رأيهم - والتي سترغم الرئيس على اجراء تعديل حكومي، كما حصل مع سلفه، التكنوقراطي أحمد بنبيتور الذي ترأس الحكومة الاولى في عهد بوتفليقة؟ ويتابع الاركان بشيء من الثقة المفتعلة قولهم: «لنترك مؤتمر الحزب الديمقراطي يمر بسلام، لنرى فيما بعد ما ستؤول إليه الاوضاع». ففي قراءة أولية يتبين بأن ماكنة الرئيس التي تم «تزييتها» أخيرا ارادت من وراء هذه الأسئلة، الايحاء بأن هذا الاخير يحاول اعطاء فرصة لخصمه المحتمل للعودة عن «تهوره» لكن مع تأكيد الترجيح بأن فكرة اختيار البديل لم تصبح ناضجة فحسب، بل انه تم بالفعل ايجاده. ما يعني ان التعديل الحكومي الذي يستهدف رأس السلطة التنفيذية، بات امرا محسوما حتى ولو استنسب بوتفليقة ارجاءه بعض الوقت، لأن من خرج عن الارادة والصفوف لابد من ان يعاقب.

على أية حال، فالواضح من وراء هذا الايحاء - التهديد، أن رئيس الجمهورية أبلغ من يهمه الأمر داخليا وخارجيا نيته الذهاب حتى النهاية في ترشيحه لفترة رئاسية ثانية أيا تكن الظروف والمعوقات وحتى التحديات ولكنه في الوقت نفسه يجد نفسه مضطرا للتعاطي بحكمة وروية حتى لا يستفز بنيات حزب «جبهة التحرير» المتعاطفة حتى الآن مع بن فليس. فبوتفليقة هو خير من عرف تركيبة هذا الحزب الذي استمر وحيدا في السلطة لنحو من ثلاثة عقود، كذلك حساسيات قواعده وكوادره الأيديولوجية والجهوية، وايضا ارتباطاتهم العضوية والمصلحية بالمؤسسة العسكرية. لذلك فهو مضطر للمناورة باستمرار، بمهارة ودهاء من خلال العمل اليومي الدؤوب بالعمق وبالسر في آن معا لتغيير خريطة توزع الولاءات قبل انعقاد المؤتمر في الفصل الأول من العام المقبل. على رغم هذه المناورات التي يريد من خلالها في الدرجة الأولى أن ترتعد فرائص بن فليس، يوفد بوتفليقة أصدقاء مشتركين لهذا الأخير لاقناعه بالتي هي أحسن من طموحاته الخيالية، وعدم استخدام الحزب أداة لذلك والعودة من جديد إلى خدمة الرئيس والوطن».

في المقابل ترى الأطراف المعبّرة عن التيّار الرافض لولاية ثانية لبوتفليقة، أنه بعد مرور ثلاث سنوات على حكم «مرشح التوافق» حاول خلالها إقناع الجزائريين بأنه «رئيس كامل» وليس «نصف أو ثلاثة أرباع رئيس» لم يتمكن من تحقيق الوعود التي قطعها. فاستحقاق سنة 2004 الراسي مقبل بخطوات متسارعة، يعرف بوتفليقة تماما بأنه لن يملك مجددا الامتيازات التي توافرت له في المرة السابقة، التي جعلت منه «المرشح الأقل سوءا من الجميع» كما ردد مرارا وعلنا اللواء المتقاعد خالد نزار، الذي يكن عداء مستحكما للرئيس الحالي الذي يصفه بأنه أحد جنرالات فرنسا. ما يعني أن في استراتيجيته الجديدة بوصفه مرشحا، لن تمكنه من الاتكال على الوعود بالتغيير، أو بتبديل اسلوب الحكم، أو الرهان على اقناع الجزائريين بأن «السلام الفعلي» سيتحقق في ولايته الثانية، لأن الأولى خصصت لوضع لبنات ترجمته.

انطلاقا من فرضية عجزه عن الايفاء بتهديداته يؤكد خصوم بوتفليقة داخل الحزب وخارجه، وايضا ضمن المؤسسة العسكرية، أن الرئيس المرشح يعد انقلابا على طريقته، وحتى على قياسه. في هذا الاطار، يشير هؤلاء إلى قيامه في منتصف شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي باستدعاء رؤساء مجالس المشاركة في الدولة، الذين كانوا مجتمعين بابن فليس، إلى قصر الرئاسة لأمر عاجل يتعلق باعطائهم توجيهات نهائية بخصوص تسريع عملية التخصيص. الهدف من وراء سحب هؤلاء من اجتماعهم الوزاري ، هو اضعاف صدقية رئيس الحكومة بشكل تدريجي على الرأي العام وتحفيز رحيله. مع ذلك، يرى المراقبون أن بن فليس، الأمين العام لحزب جبهة التحرير، الذي كلفته للتو اللجنة المركزية بتشكيل لجنة للتحضير للمؤتمر، يملك بين يديه عدة أوراق مهمة يمكنه استخدامها في الوقت المناسب. هذا ما سيحصل على الأرجح بمساعدة جهاز الأمن العسكري المعادي كليا لبوتفليقة، خصوصا بعد أن حاول هذا الأخير إقصاء رئيسه وفشل بذلك. لكن من هنا وحتى تاريخ انعقاد المؤتمر، من الممكن أن تحدث تبدلات مفاجئة على صعيد الوضع الداخلي للحزب تغير المعطيات والواقع القائم. كما ان اقتصار بن فليس عن رئاسة السلطة التنفيذية لن يكون كافيا بحد ذاته، بل على بوتفليقة أن يجد الطريقة الكفيلة بابعاده أيضا عن الأمانة العامة للحزب، لأنه عندها فقط، سيتمكن من فتح الطريق وإزالة جميع الحواجز أمام عودته مجددا إلى القصر المرادية.

الجيش، بيضة الثعبان

منذ يوليو/تموز الماضي ورموز «السلطة الفعلية» «يسربون المعلومات ويدلون بتصريحات «مشفرة» تؤكد أن الجيش لن يتدخل في انتخابات 2004 الرئاسية، التي تشكل الواقع السياسي الأساسي، أهمية دخول الجزائر نفسها دائرة التعددية. فالانسحاب النهائي للمؤسسة العسكرية من الحياة السياسية والعامة في البلاد، يعني اغلاق المزدوجين على حقبة تمتد جذورها إلى إرهاصات حرب التحرير وأزمة العام 1962، اللتين سمحتا بتدخل العسكريين وفق اشكال مختلفة، بدءا من ثلاثية «الحزب ـ الدولة ـ الجيش»، مرورا بمرحلة «الجنرالات ـ الرؤساء» (الشاذلي بن جديد والأمين زروال)، وانتهاء بالدعم المباشر لإيصال آخرين إلى الحكم (المرحوم محمد بوضياف وعبدالعزيز بوتفليقة).

ماعدا المرحلة الرهيبة التي تمثلت بالحرب ضد الارهاب، والتي فرضت على الجيش لعب دور أساسي في الحياة السياسية اليومية، فإن «طغيان» الجانب العسكري على السياسي كان ينظر إليه على الدوام على أنه خطأ فرضته طبيعة المرحلة وترجمة لعدم قدرة الجزائر على دخول دائرة الديمقراطية. فقرار انسحاب الجيش من السياسة كان ثمرة تجربة التسعينات. فإذا ارادت قيادته اتباع حس الدفاع الذاتي لمؤسسة تشعر بضرورة العودة إلى الدور التقليدي المناط بالجيوش: الدفاع عن البلاد ضد الأخطار الكبيرة التي تهددها من الداخل والخارج ووضع حد لاتهامها من قبل الأوساط السياسية في الجزائر وما وراء الحدود، بلعب دور فاعل في المجازر الحاصلة، إضافة إلى رفضها تبعات الأخطاء التي ترتكبها السلطة التنفيذية في ادارة شئون الدولة. ما دفعها تدريجيا الى ابقاء مسافة تفصل بين الجيش وسلطة المدنيين، والتفكير جديا بالعودة مستقبلا إلى الثكنات. هذا هو فحوى المداخلات التي اضطلع بها قادة الجيش في الأشهر الأخيرة، سواء عبر مجلتهم «الجيش» أو عبر تصريحات علنية لبعض الصحف. لكن هذا التوجه الاستراتيجي المستقبلي، يبقى مرهونا بعدة عوامل: أولاها ينبع من التباينات في الأفكار داخل المؤسسة العسكرية نفسها، إذ ضرورة الانسحاب من الدائرة السياسية لا يحظى حتى الآن بالاجماع إذ فخارج اطار الذين يدافعون عن مصالحهم الخاصة، هنالك عدد من الضباط الذين يخشون أن تقع البلاد التي لم يقو ضدها بعد والتي لاتزال مهددة بفعل الارهاب، بين أيدي «الجماعات الاصولية» التي تحلم باقامة نظام ديني. لذلك فإن اقتناعهم بأنه من الخطر بمكان افساح المجال لهؤلاء لتحقيق مآربهم، يرى هذا الفريق من العسكريين أنه من الأنسب اعتماد «انسحاب محسوب وتدريجي» مترافق مع مراقبة عن كثب للتحولات السياسية من دون الانزلاق مباشرة والوقوع في فخ الانتخابات وفي اختيار المرشحين إلى أية فئة انتموا، ذلك على غرار ما هو حاصل في تركيا.

فهذا النوع من التوجه ينظر إليه بعين الرضا من قبل الشركاء الخارجيين للجزائر، الغربيون منهم خصوصا، الذين يرون أن السياسة في الجزائر ليست مؤهلة بما فيه الكفاية لمواجهة «الخطر الأصولي». هذا النوع من «القلق» تروج له أوساط حلف شمال الأطلسي الذي رفع في الآونة الأخيرة من نمط علاقاته مع الجيش وكثفه. أما العنصر الآخر والذي يأتي من خارج الجيش، فيتلخص في كون بوتفليقة هو من النوع الذي لا يرضى بالبقاء مكتوف الأيدي أمام مشروع يبنى في غير صالحه. لذلك، فمن المتوقع أن تدخل لإحداث التوازن المطلوب في ميزان القوى داخل الجيش من خلال تشجيع اصدقائه القدامى وحلفائه الظرفيين على لعب دور مؤثر في اللعبة، فموقعه بوصفه قائدا أعلى للجيوش ووزيرا للدفاع يعطيه الصلاحية بإحداث التغييرات التي يراها ملائمة لشطب خصومه الذين يحتفظون بمراكز المسئولية في المؤسسة العسكرية، لكن هذا التصور يبقى نظريا، لأن السلطة الفعلية اثبتت قدرتها على تبادل الأدوار وايقاع من راهنوا باللعب على تناقضاتها في افخاخها المتعددة، وشطبهم بجرة قلم من مواقع المسئولية وحتى من الخريطة السياسية.

بانتظار ان يقول «الصامت الأكبر»، أي الجيش، كلمته الفصل، وهو بيضة القبان في التوازنات السياسية بالجزائر، من المتوقع أن تستمر التجاذبات الحادة وتتواصل الضربات المباشرة وبالواسطة بين المتنافسين على رأس السلطة، من الآن وحتى 2004، إلا في حال حدثت مفاجأة فوق العادة وهو ما ليس بمستغرب في بلد المليون شهيد

العدد 92 - الجمعة 06 ديسمبر 2002م الموافق 01 شوال 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً